نظرات في تاريخ الأقباط !
الفتح الإسلامي لمصر !
لقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة في السماحة والرحمة في تعامله مع النصارى على مر العصور , خاصة في مصر الحبيبة , ولم يشهد التاريخ عدلاً كعدل الإسلام ولا سماحة كسماحة الإسلام , واليوم نعرض شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية على ذلك , وهى من الأهمية بمكان , خاصة ونحن نرى نصارى اليوم , يرددون الشعارات الباطلة , من أن الإسلام قد دخل مصر بالسيف , وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه قهر النصارى واضطهدهم وأذلهم !
ولا أدري إذا قلت للنصراني : هذه شهادة أعظم علماء الكنيسة الأرثوذكسية مكانة وقدرًا في علم التاريخ , تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام دين الرحمة والعدل , فبماذا سوف يعلق ؟! وهل سيستمر في دعواه أم سيصمت ويلتزم بأقوال أبائه ؟!
شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية !
تقول لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية : " بنيامين البابا الثامن والثلاثون ( 625-664م ) : في عهده استرد هرقل ملك الروم مصر من الفرس , وأقام قِبَلِه عاملاً يونانيًا للخراج ( أي لجمع الضرائب ) اسمه جريج بن مينا وجعله فوق ذلك بطريركًا ملكيًا , وهو الملقب بالمقوقس . وكان هرقل قد أقام أساقفة خلقدونيين ( ملكيين ) لسائر إيبارشيات مصر . فاختفى البابا بنيامين هو والأساقفة الأرثوذكسيون ودام هذا الإختفاء ثلاث عشرة سنة حاق في خلالها البلاء بأهل البلاد , إذ اضطهدهم الأساقفة الملكيون بغية إكراههم على اتباع عقيدة الطبيعتين , وقد اتبعها بعضهم فعلاً .
وفي هذه الأثناء فتح العرب مصر على يد عمرو بن العاص . فكتب عمرو عهدًا بالأمان نشره في أنحاء مصر يدعو فيه البابا بنيامين إلى العودة إلى مقر كرسيه ويؤمِّنه على حياته , فظهر البابا وذهب إلى عمرو , فاحتفى به وردَّه إلى مركزه عزيز الجانب موفور الكرامة , فأخذ يعمل على أن يسترد إلى الحظيرة الأرثوذكسية الإبيارشيات التي استمالها الملكيون ( الكاثوليك ) . فكُلل عمله بالنجاح , وكذلك عمَّر الأديرة التي خربها الفرس في وادي النطرون , وجمع إليها رهبانها الباقين المشتتين , وفي آخر أيامه أراد إعادة تعمير كنيسة مار مرقس التي هدمت وقت فتح الإسكندرية , فلم تمهله المنية .
وكان البابا بنيامين موصوفًا بحسن التبصر حتى أطلق عليه لقب " الحكيم " وكان هذا من الأسباب التي جعلت عمرو يأنس إليه ويستهدي برأيه في شئون البلاد " ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 114 , 115 - تأليف لجنة التاريخ القبطي , الطبعة الثالثة 1996هـ- دار مجلة مرقس , القاهرة - مصر ) .
شهادة الأنبا شنودة !
كنت قد نقلت لكم شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية على ما فعله عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد دخوله مصر فاتحًا , بالنصارى الأرثوذكس , وهذه الشهادة تُعد من أهم الشهادات على سماحة الإسلام ورحمته بنصارى مصر إبان الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه , وعلى الظلم والإضطهاد الذي كان النصارى الأرثوذكس يعانون منه على يد إخوانهم في الدين ( الكاثوليك ) !
وأنقل لحضراتكم شهادة أخرى على سماحة الإسلام بالنصارى في مصر , وهى لرئيس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية , ففي كتاب "مرقس الرسول القديس والشهيد " لمؤلفه " الأنبا شنودة الثالث " طبعة 1987م , إصدار مكتبة المحبة بالقاهرة . جاء فيه : " سنة 644م أبان الفتح العربي ( الإسلامي ) عبر أحد البحارة ( النصارى ) ليلاً إلى الكنيسة , فوجد تابوت القديس مرقس فتوهم أن فيه ذهبًا , فأخذه وأخفاه في خن المركب , وعندما عزم عمرو بن العاص على المسير , تقدمت المركب كلها وخرجت من الميناء , ما عدا المركب التي كان بها الرأس ... فأمر عمرو بن العاص بتفتيشها , فوجدوا الرأس في تلك المركب مخبئًا , فأخرجوه , فخرجت المركب حالاً , واستحضر الرجل الذي اعترف بعد وقت بسرقته , فضربه وأهانه .
ثم سأل عمرو بن العاص عن بابا الأقباط الذي كان في حالة هروبه إلى الصعيد (13 عامًا) خشية أضطهاد الملكيين ... فكتب له عمرو بن العاص خطابًا بخط يده يطمئنه , فحضر البابا واستلم منه الرأس " ( مرقس الرسول القديس والشهيد ص 70 ) .
ولم يكتف البابا شنودة بهذه الشهادة بل ذكر : " أن عمرو بن العاص أعطى عشرة آلاف دينارًا للبابا بنيامين من أجل بناء كنيسة عظيمة لصاحب هذه الرأس - أي مرقس - فبنى البابا بينيامين الكنيسة " المعلقة " الكائنة إلى يومنا هذا في شارع المسلة بالثغر , ودفن فيها الرأس إلى الأن " ( المصدر السابق ) .
وإن كنا لا نقول بما قال به البابا شنودة حرفيًا , لكن هذا تاريخهم , وهذه شهادتهم !!
شهادة الكاثوليك !
رغم انتصار عمرو بن العاص رضي الله عنه للمظلوم وهم الأرثوذكس على حساب الظالم وهم الكاثوليك , إلا أنهم أقروا بسماحة الفتح الإسلامي لمصر - أي الكاثوليك - , لكنهم كالعادة طعنوا في الأرثوذكس , فزعموا أنهم خدموا العرب , فلذلك أحسنوا إليهم وأعطوهم كنائس الكاثوليك !!
يقول الأقباط الكاثوليك في مدونتهم على شبكة المعلومات تحت عنوان : " تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية " : ( أما عمرو بن العاص, كتب إلى البطريرك بنيامين طالباً منه أن يعود ليدير بيعته وطائفته. فعاد بنيامين إلى الإسكندرية بعد غيبة استمرت 13سنة . وأحسن عمرو استقباله , كما عاد كثير من الأقباط الهاربين إلى أراضيهم . كانت سياسة عمرو ترمى إلى كسب مودة الأقباط , واحترام شعورهم الديني, ولم يستولى على ممتلكات الكنيسة , لكنه كافأ الأقباط اليعاقبة على خدماتهم للعرب , إذ تركهم يستولون على معظم كنائس الملكيين وأديرتهم. ولم يضغط على الأقباط ليعتنقوا الإسلام وكلفهم بحصر الضرائب , وعين لهم قاضياً مسيحياً ليحكم بينهم حسب ما جاء في شريعتهم , وتولى عبد العزيز بن مروان ولاية مصر بعد وفاة عمرو (٦٨٥ م) ، وهو أول من فرض الجزية على الرهبان والأساقفة والبطاركة. وخلاف ذلك كان حكمه عادلاًً. واتخذ له كاتبين أرثوذكسيين هما أثناسيوس , واسحق وخدما مصالح الأقباط ومصالح البطريرك يوحنا السمنودى(٦٧٧ – ٦٨٦م). وكان بعض حكام الأقاليم من الأقباط أشهرهم بطرس حاكم الصعيد الذي اعتنق الإسلام في نهاية حكم عبد العزيز بن مروان . وكان حاكم مريوط يتبع المذهب الملكي. ثم تولى ولاية مصر قرة بن شريك الذي ترك معظم وظائف الدولة في أيادي الأقباط ) .
الإضطهاد بين الحقيقة والإفتراء !
رغم كل ما قيل , فنحن لا ندعي العصمة لأحد إلا لله ولرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , فأما الحكام وأولي الأمر , فهم ليسوا بمعصومين , ولكن من حكم فينا بشرع الله فهو العادل , ومن خالف الشرع فهو ظالم لنفسه وأمته وشعبه , فأي ظلم وقع على النصارى – بغير وجه حق – على يد حاكم مسلم فالإسلام منه بريء , ورغم هذا لم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً , فقد كان الرأي العام - والفقهاء معه – دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين , وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه .
والنصارى الأرثوذكس في كتبهم يعتبرون أي فعل من شأنه إقامة الدولة وتنظيم الأحوال المدنية والشخصية بين أفراده من باب الإضطهاد !! فلقد نسوا ما هو الإضطهاد الذي عانوا منه على يد إخوانهم الكاثوليك من قتل وسفك وتشريد قبل الفتح الإسلامي , بعد أن تنعموا بالحرية والعدل في ظل الإسلام ودولته !!
فإذا أخذنا من البالغين القادرين على حمل السلاح الجزية , جزاء حمايتهم وكفايتهم عدوا ذلك في كتبهم من الإضطهاد !! وهم الذين كانوا يدفعون الضرائب رغمًا عنهم , ودون أي إعفاء لكبير أو صغير من الجنسين , وليس من أجل الحماية والكفاية عنهم !!
وإذا قمنا بتغيير اللغة الرسمية للبلاد عدوا ذلك من باب الإضطهاد !! كما فعل عبد الله بن عبد الملك بن مروان في مصر شرفها الله , ولا ندري أي اضطهاد في ذلك , وقد صارت مصر دولة إسلامية يحكمها لسان عربي , كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , واللذان ضمنا حرية العقيدة والتدين لأهل الذمة !
بل لقد كان النصارى في مصر – على سبيل المثال – هم أول من أثاروا الفتن بعد الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص , فبالرغم من إكرام عمرو بن العاص ومن جاء بعده لهم إلا أنهم أرادوا زعزعة أمن البلاد واستقراره !
يقول الأقباط الكاثوليك في مدونتهم على شبكة المعلومات تحت نفس العنوان أعلاه : ( في عام 754م كوَّن أقباط الصعيد جيشاً لتحرير البلاد في عهد عمر بن عبد العزيز , لكنهم هزموا , وفي عام ٧٥٥م- ٧٧٩م تكون جيش من أقباط الوجه البحري بقيادة مينا بن بكير . استولى على سمنود ورشيد والبحيرات ودمياط . وهزموا جيوش الوالي عمر بن عبد العزيز , تلاه جيش مروان , ثم جيش الكوثر بن الأسود الذي انتقم بأن قبض على البطريرك ميخائيل , ورد الأقباط على ذلك بأن أحرقوا مدينة رشيد وقتلوا من فيها من المسلمين . لكنهم هزموا عام ٧٧٦ م على يد موسى بن على ) .
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه , الخليفة العادل , الذي أكرم النصارى وأمنهم على حياتهم وكنائسهم وأموالهم وسدد ديونهم , أرادوا زعزعة دولته ومحاربته !!
الذي يجب أن يعرفه النصارى أن الإسلام ضمن لهم العهد طالما أنهم لم يحاربوا دولته , وأرادوا زعزعة أمنه واستقراره , أما إن كان الأمر منهم نقيض ذلك , فلقد أوجب الإسلام علينا أن نطهر جسد الدولة من هذه النتوءات التي تحيا على حسابه !
مثال أخر على الإضطهاد المزعوم !
تستطرد لجنة التاريخ القبطي في حديثها عن أحداث القرن التاسع فتقول : ( نبغ في هذا القرن – القرن التاسع – مهندس قبطي اسمه سعيد بن كاتب الفرغاني . من قرية تدعى فرغونيس اندثرت معالمها . كانت قريبة من تيده بمركز كفر الشيخ . وهو الذي تولى في عهد أحمد بن طولون بناء مقياس النيل والصهريج المعروف بصهريج ابن طولون . وبعد أن أتم بناء المقياس أُلقي في السجن ونُسي أمره . ( لاحظ أنهم لم يذكروا السبب ) .
ثم اتفق بعد مدة أن ابن طولون عزم على بناء جامعه الكبير على مثال يحفظه من الغرق والحريق وأراد أن يجعله أعظم وأجمل ما بني من نوعه . فاستدعى المهندسين والخبراء وشاورهم في بنائه فرأوا أن الجامع يحتاج ثلاثمائة عمود , وهذه الأعمدة لا يسهل الحصول عليها إلا إذا هُدم عدد عظيم من الكنائس والمعابد القديمة - !!! - .
وسمع ابن كاتب الفرغاني بالخبر وهو في السجن , فكتب إلى أحمد بن طولون يعرض عليه استطاعته بناء الجامع بغير حاجة إلا إلى عمودين اثنين لا غير واستبدال دعائم من الآجر ببقية الأعمدة لما للآجر من خاصة مقاومة الحريق . فلما قرأ طولون عريضته استدعاه إليه وقبل العمل بمشورته وطلب منه أن يضع نموذجًا مجسمًا لذلك البناء الضخم فصنعه ابن كاتب من الجلد , ولعله أول من فكر في عمل نماذج مجسمة للأبنية من هذا النوع قبل البدء فيها . فسُر ابن طولون وعهد إليه ببناء الجامع وعدل عن الرأي القائل بهدم الكنائس وأخذ الأعمدة منها - !!! – فنجت الكنائس بفضل ذلك المهندس الماهر وجعل تحت تصرفه مائة ألف دينار على أن تزاد عند الحاجة , فتعهد المهندس العمل إلى أن أتمه في رمضان سنة 265هجرية ( سنة 879 م ) . وعند الإحتفال بإفتتاحه وزعت الصدقات على الفقراء وأرسلت الهدايا إلى مستحقيها فنال المهندس عشرة آلاف دينار , وعدا ذلك أمر أحمد بن طولون بأن يجري عليه الرزق مدة حياته ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
ونسأل : أين الإضطهاد ؟!
نقول مع التحفظ على صحة ما ذكرته لجنة التاريخ القبطي : إن قصة ذلك المهندس النصراني أكبر دليل على رحمة الإسلام وسماحته واهتمامه بأهل الذمة في أقطاره , كما فيه إشارة إلى تكريم الإسلام للمبدعين حتى ولو كانوا لا يدينون بدين الإسلام .
وهذه القصة ذكرها العلامة المقريزي في تاريخه , هذا نصها : ( وقال جامع السيرة الطولونية : وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة ، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان ( المستشفى ) ، ثم العين التي بناها بالمغافر ... والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصراني حسن الهندسة حاذق بها ، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له : إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها ، فقال: يركب الأمير إليها في غد ، فقد فرغت ، وتقدم النصراني فرأى موضعًا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات ، فبادر إلى عمل ذلك ، وأقبل أحمد بن طولون يتأمل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها ، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير فوقف بالإتفاق عليها ، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد ، ولسوء ظنه قدر أن ذلك لمكروه أراده به النصراني ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط ، وأمر به إلى المطبق ( السجن ) ، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير ، فاتفق له اتفاق سوء .
وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصراني إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع ، فقدر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها ، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب ، فتحمل ذلك . فأنكره ولم يختره ، وتعذب قلبه بالفكر في أمره ، وبلغ النصراني وهو في المطبق الخبر ، فكتب إليه : أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة ، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه ، فبناه ) ( المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار 2/226 ) .
لقد أخفت لجنة التاريخ القبطي سبب سجن هذا المهندس , لإيهام القاريء أنه شهيد الإضطهاد , في حين أن العلامة المقريزي ذكر سبب سجن هذا المهندس , وهو أن ابن طولون ظن أنه أراد به السوء , كما أن العلامة المقريزي ذكر أن السلطان أحمد بن طولون كره الرأي القائل بحمل الأعمدة من الكنائس , ولم يختره , بل استبعده وأنكره فور اقتراحه , فلم يعد لذكر لجنة التاريخ القبطي أن المهندس اختار بناء الجامع إنقاذًا للكنائس أي أهمية , بل هو تضليل عن الحق , فالمهندس إختار الإشراف على التنفيذ بمحض إرادته وليس لإنقاذ الكنائس .
وعلى كل حال , فرواية لجنة التاريخ القبطي تظهر حقيقة دعوى الإضطهاد المزعوم !!
وقد ذكر المؤرخون مواقف مشرفة لأحمد بن طولون في تعامله مع النصارى , أذكر منها أنه قد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي " أحمد بن طولون " أحد قواده , لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق , فما كان من "ابن طولون" إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزره وأخذ منه المال ورده إلى النصراني , وقال له : لو ادعيت عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به , وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة , ولو كان المشكو من كبار القواد وموظفي الدولة . ( انظر فتوح البلدان للبلاذري ص 166-167 ) .
وقال الحافظ ابن كثير : ( واتفق أنه وقع بها - أي دمشق - حريق عند كنيسة مريم , فنهض بنفسه إليه - أي ابن طولون - ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر والحافظ الدمشقي وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي , فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت , فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره , وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم , ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها فأقل ما حصل للفقير دينار رحمه الله ) ( البداية والنهاية 11/40 ) .
الحاكم بأمر الله العبيدي ودعوى الإضطهاد !
تقول لجنة التاريخ القبطي : ( القرن العاشر : ذاقت الكنيسة طعم الراحة معظم هذا القرن ولكن الأحوال تبدلت في أواخره , فاضطرمت نار الإضطهاد في أيام الحاكم بأمر الله . فهدم من الكنائس ما هدم , وأقفل منها ما أقفل ونهبت الأديرة . وحرم على المسيحيين أن يقيموا الصلاة جهارًا . فاعتنق كثير من نصارى مصر الإسلام , غير من استشهد منهم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
لقد أكثر النصارى الأرثوذكس ذكر الأحداث والبلايا التي حدثت في زمن الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله , سادس الخلفاء الفاطميين في مصر , ونسوا أن يحتكموا إلى العقل والمنطق عند النظر في التاريخ , فهم قد تمسكوا بالأحداث التي من شأنها زيادة الحقد والكراهية في نفوسهم دون تمحيص أو تدقيق , بل تعمدوا البتر والتضليل , وهذا وإن دل على شيء فإنما يدل على تحزبهم لفكرة الإضطهاد , ونشر ثقافة الكراهية والحرمان بين الرعية , فتخيل نفوسًا هذا شأنها , كيف تنظر في التاريخ , وماذا تستنبط منه ؟!
لقد كان أولى لهم أن ينظروا في الأيام التي سعدوا فيها في ظل حكم الإسلام كما شهدوا على أنفسهم , فيستبنطون منها أن السعادة والرخاء والعدل والأمان في تحكيم وتطبيق شرع الله في أرضه , الإسلام الحنيف , وأن الظلم والقسوة في تحكيم غير شرع الله , فلا عصمة لحاكم , ولكن من أقام تعاليم الإسلام في شتى مناحي الحياة تنعم شعبه وازداد رخاءً , فهذا ضمان الله تبارك وتعالى لمن أقام دينه في الأرض وطبق تعاليمه , وقد شهد النصارى أنفسهم على ذلك كما بيَّنا .
والقوم كعادتهم , غفلوا عن أن ظلم الحاكم بأمر الله العبيدي , نال كل حي في مصر , لا النصارى فقط , فهو – قبحه الله – كان من شرار الخلق وأخبثهم , وكان كارهًا للمسلمين أكثر من كرهه لليهود والنصارى .
وقد شهد بذلك أحد أكبر مؤرخي النصارى وهو سعيد بن البطريق في تاريخه المسمى بـ " كتاب التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق " ( 2/180-234 ) .
والدولة العبيدية أو الفاطمية يعلم كل ناظر خبير من غير المسلمين في تاريخ الإسلام كرهها للإسلام وأهله , إذ تبنت عقائد الإسماعيلية الباطنية ونشر مباديء الإلحاد , خاصة في عهد الحاكم بأمر الله العبيدي , التي كانت ولايته شرًا على الخلق أجمعين !
قال الذهبي في تاريخه : ( منصور الحاكم بأمر الله . أبو علي صاحب مصر ابن العزيز نزار بن المعز بالله العبيدي . كان جوادًا سمحًا خبيثًا ماكرًا رديء الإعتقاد سفاكًا للدماء قتل عددًا كبير من كبراء دولته صبرًا . وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورًا وأحكامًا يحمل الرعية عليها . فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع وأمر العمال بالسب في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة . وأمر فيها بقتل الكلاب فقتلت عامة الكلاب في مملكته . وبطل الفقاع والملوخيا . ونهى عن السمك الذي لا قشر له وظفر بمن باع ذلك فقتلهم . ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب . ثم جمع منه شيئًا عظيمًا فأحرق الكل ومنع من بيع العنب وأباد الكثير من الكروم ) ( تاريخ الإسلام 1/2976 ) .
وقال العلامة أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه : ( وكانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام ، وجبن وإحجام ، ومحبة للعلم وانتقام من العلماء ، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء , وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى ، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ... ومنع من صلاة التراويح عشر سنين ) ( ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/ 446) .
وقال ابن الصابيء : ( وكان المصريون موتورين منه ، فكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بالدعاء عليه والسب له ولأسلافه ، والوقوع فيه وفي حرمه ) ( المصدر السابق 1/448 ) .
وقال الذهبي أيضًا : ( ثم زاد ظلم الحاكم ، وعن له أن يدعي الربوبية ، كما فعل فرعون ، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون : يا واحد يا أحد ، يا محيي يا مميت ... قلتُ : بل لعنة الله على الكافر ) ( تاريخ الإسلام 6/466 – 467 ) .
وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه " مرآة الزمان " : ( رأيت في بعض التواريخ بمصر أن رجلاً يعرف بالدرزي قدم مصر ، وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ ، فاجتمع بالحاكم وساعده على ادعاء الربوبية وصنف له كتابًا ذكر فيه أن روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علي بن أبي طالب ، وأن روح علي انتقلت إلى أبي الحاكم ، ثم انتقلت إلى الحاكم . فنفق عند الحاكم وقربه وفوض الأمور إليه ، وبلغ منه أعلى المراتب ، بحيث إن الوزراء والقواد والعلماء كانوا يقفون على بابه ولا ينقضي لهم شغل إلا على يده . وكان قصد الحاكم الإنقياد إلى الدرزي المذكور فيطيعونه . فأظهر الدرزي الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة ، فثار الناس عليه وقصدوا قتله ، فهرب منهم ، وأنكر الحاكم أمره خوفًا من الرعية ، وبعث إليه في السر مالاً، وقال : اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال ، فإن أهلها سريعو الإنقياد . فخرج إلى الشام ، ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة ، غربي دمشق من أعمال بانياس ، فقرأ الكتاب على أهله ، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال ، وقرر في نفوسهم الدرزي التناسخ ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه ، وأقام عندهم يبيح لهم المحظورات ) ( النجوم الزاهرة 1/449 ) .
ونقل الحافظ ابن كثير في تاريخه " البداية والنهاية " طعن أئمة علماء بغداد من المسلمين في الحاكم بأمر الله وأسلافه : ( ... وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار , ملحدون زنادقة , معطلون , وللإسلام جاحدون , ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون , قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج , وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء , وسبوا الأنبياء , ولعنوا السلف , وادعوا الربوبية ) ( البداية والنهاية 11/303 , وانظر بقية سيرته الملعونة قبحه الله 12/8-10 ) .
فهذا بعض ما فعله الحاكم بأمر الله العبيدي بالإسلام والمسلمين , وكتب التاريخ ممتلئة بأفعاله الشنيعة بالمسلمين قبل اليهود والنصارى , إذ أنه في نهاية المطاف عفا عن النصارى وأعاد كنائسهم إلى حالها , بل سمح لمن أسلم منهم خوفًا منه أن يعود إلى النصرانية . وقد جاء ذلك في كتب تاريخ المسلمين وغيرهم , بل وأكدته لجنة التاريخ القبطي , إذ قالت : ( ... ثم عفا الحاكم عن المسيحيين ومنحهم الحرية المطلقة فرجع الكثيرون إلى أحضان الكنيسة وكذا عفا عن البابا بحسن مسعى راهب يدعى بيمين كانت له مكانة عظيمة لدى الحاكم , فتسلم الكرسي بعد نفي مدة تسع سنوات وفتح الكنائس وقام بتعمير المتهدم منها واستمر على الكرسي إلى أن انتقل إلى الرب في سنة 1032م في أيام الظاهر بن الحاكم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 122 ) .
أما المسلمون فلقد ظلوا يذوقون الظلم والقسوة والحرمان حتى انتهى أمر الملعون بأمر الله , الحاكم بأمر الشيطان , سنة إحدى عشر وأربعمائة .
فلماذا يكثر النصارى ذكر الإضطهاد الذي وقع عليهم من قبل الحاكم بأمر الله وينسبون ذلك إلى الإسلام أو المسلمين ؟! وهل كان الحاكم هذا من القائمين بشرع الله في أرضه ؟! أم كان فاجرًا كفارًا لا يمت للإسلام والمسلمين بصلة ؟!
وهل هذا الحاكم لم يضطهد غير النصارى ؟! بل أقول : لقد كانوا أقل الناس معاناة من ظلمه وقسوته آنذاك , فأم الحاكم هذا كانت رومية نصرانية , وكان لها نفوذ كبير في الدولة , وكان لهذا النفوذ أثره بلا ريب في سياسة التسامح الواضح التي اتبعها زوجها " العزيز " تجاه النصارى , وفي تقوية جانبهم ونفوذهم , حتى صار عيسى بن نسطورس النصراني رئيسًا للوزراء عند العزيز !
لكن مع ازدياد هذا النفوذ في ولاية الحاكم بأمر الله , اشتد بأس النصارى وظلمهم على المسلمين , وقد كان هذا أحد أهم الأسباب لإضطهاد الحاكم بأمر الله للنصارى , فالنصارى هم سبب ما فعله الحاكم بأمر الله بهم , وليس الإسلام , بل ولا حتى الحاكم العبيدي , وقد شهد بذلك الأستاذ مينا إسكندر صاحب كتاب " القول الإبريزي للعلامة المقريزي " عن الأقباط في مصر ( طبع سنة 1898م على نفقة " جمعية التوفيق " القبطية المركزية بالقاهرة ) . والذي عمد فيه إلى صفحات من مؤلف العلامة المقريزي " المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار " . وكتاب " القول الإبريزي " له شهرة عظيمة , فلقد اعتمد عليه الأوربيون والمستشرقون عندما كتبوا عن الأقباط وكنائسهم ودياراتهم دون الإعتماد على خطط المقريزي , وترجم إلى عدة لغات أوربية .
يقول الإستاذ مينا في مقدمة كتابه : ( لما رأيت أبناء الأقباط قد هبوا من غفوتهم , والتفتوا إلى ماضي أمتهم , دفعتني الغيرة لتنبيه الكثير منهم إلى مطالعة ما كتبه المقريزي في كتابه الخطط عن الأقباط , وبطاركتهم , وكنائسهم , ودياراتهم .. مما يلذ معرفته , ويتعذر وجوده في مؤلفات أخرى .. ولما كانت نسخ هذا الكتاب ( أي خطط المقريزي ) قليلة , محصورة , ناردة الوجود .. استعنت الله في طبع ما يختص بالأقباط من هذا الكتاب في كراسة مخصوصة , سميتها : " القول الإبريزي للعلامة القريزي " عن الأقباط ) .
وفي صفحة 52 يذكر الأستاذ مينا إسكندر نقلاً عن المقريزي ما نصه : ( وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدم اليعاقبة زخريس بطركاً ، فأقام ثماني وعشرين سنة ، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز باللّه تسع سنين ... وفي بطركيته نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها ، وذلك أن كثيراً منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم ، فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين ، فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك ، وكان لا يملك نفسه إذا غضب ) ( راجع الخطط للمقريزي 3/259-290 ) .
وهكذا حال القوم كلما تعاظمت منازلهم وارتفعت نجومهم في ظل الحق والعدل الذي ضمنه لهم الإسلام , فهم أجود بالحقد والظلم من الريح المرسلة كلما سنحت لهم الفرصة , فتوجهاتهم للإيذاء والخروج على الدولة أسبق من حفظ العهد مع أهل الإسلام , كأهل ذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا , وما أشبه الليلة بالبارحة !
وعن تخريب الحاكم لكنيسة القيامة ببيت المقدس , فلقد ذكر الحافظ ابن كثير في موسوعته التاريخية " البداية والنهاية " أن السبب في أمر الحاكم بتخريب الكنيسة هو : " البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح من النار التي يحتالون بها , وهى التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء , وإنما هى مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره , بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام " ( البداية والنهاية 11 / 297-298 ) .
ونسأل : أين الإضطهاد الذي أوقعه الإسلام على أهل الذمة ؟!
أحداث القرن الرابع عشر ودعوى الإضطهاد !
تقول لجنة التاريخ القبطي : ( القرن الرابع عشر , كان هذا القرن شؤمًا على الكنيسة , خُربت فيه البيع تخريبًا فظيعًا وصودرت أملاكها , وهُدم معظم الأديرة , وضوعفت الجزية على الأقباط وقُتل من قُتل وأسلم من أسلم , حتى أشرفوا على الفناء . وكان للكنائس أوقاف تبلغ 25 ألفًا من الأفدنة أخذها الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون من المماليك البحرية وأنعم بها على الأمراء . ولم يأت آخر القرن حتى كانت إبراشيات عديدة في الوجه البحري قد تلاشت لانقراض مسيحييها ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 132 ) .
بل مكر الليل والنهار !
تتحدث اللجنة وبراءة الأطفال في عينيها , وكأن جريمتهم أنهم نصارى فقط !
نعوذ بالله من خبث القوم !
لقد شهد التاريخ , أن النصارى في مصر ذاقوا طعم العدل والأمن والحرية طالما حفظوا العهد المبرم بيننا وبينهم , لكنهم – دائمًا – كانوا أسبق للخيانة والغدر ونكران الجميل , ولذلك علم الحكام والولاة على مر العصور أنهم للميل إلى الخروج عن نظام الدولة وإثارة الفتن أقرب , وأنهم يستغلون جو الحرية والعدل والأمن والرخاء لتحقيق مآرب أخرى , أهمها القضاء على الإسلام ودولته , وقد شهد تاريخ النصارى بذلك كما بيَّنا بعضه , ولذلك عمل العديد من الولاة في مصر على تحجيم سلطات النصارى كلما رأى منهم الخيانة والخديعة .
وينقل لنا الأستاذ مينا إسكندر في كتابه " القول الإبريزي للعلامة المقريزي " أحداث القرن الرابع عشر نقلاً عن العلامة المقريزي , فيخبرنا أن " سنجر الشجاعي " أحد مماليك المنصور قلاون , قد شدد على النصارى , فلما مات الملك " المنصور " وخلفه ابنه الملك " الأشرف خليل " خدم الكتاب النصارى عند الأمراء فارتفع نجمهم واشتد بأسهم وازداد ظلمهم للمسلمين !
يقول العلامة المقريزي : ( فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل ، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقووا نفوسهم على المسلمين ، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم ، وكان منهم كاتب عند خاصكي يعرف " بعين الغزال " ، فصدف يومًا في طريق مصر سمسار شونة مخدومه ، فنزل السمسار عن دابته وقبل رجل الكاتب ، فأخذ يسبه ويهدده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير ، وهو يترفق له ويعتذر ، فلا يزيده ذلك عليه إلا غلظة ، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ، ومعه عالم كبير ، وما منهم إلا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم ، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار ، وكان قد قرب من بيت أستاذه ، فبعث غلامه لينجده بمن فيه ، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم ، فصاحوا عليهم ما يحل ، ومروا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة ، واستغاثوا نصر الله السلطان ) ( القول الإبريزي ص 59 , وانظر الخطط 3/282 ) .
ويحدثنا المقريزي عن تطاول النصارى في مصر أنذاك على عوام المسلمين , فيقول : ( وفي أخريات شهر رجب سنة سبعمائة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجًا ، وصار يركب إلى الموكب السلطاني وبيوت الأمراء ، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة ، إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة ، وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرعون إليه ويقبلون رجليه ، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه . فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا ، فلم يزده ذلك إلا عتوًا وتحامقًا ، فرق المغربي لهم وهم بمخاطبته في أمرهم ، فقيل له : وأنه مع ذلك نصراني ! فغضب لذلك وكاد أن يبطش به ، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان ، والأمير بيبرس الجاشنكير ، وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى ، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله ، وتسليط عدوهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل ، وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم ، وأن الواجب إلزامهم الصغار ، وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود ، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم ، وحضر كبراء اليهود والنصارى ، وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود ، فأذعنوا إلى إلتزام العهد العمري ) ( القول الإبريزي ص 61 , وانظر الخطط 3/283 ) .
فمن السبب فيما حدث من بلايا وأرزاء ؟!
أما أحداث أوقاف الكنائس التي أشارت اللجنة إليها , فيذكر العلامة المقريزي سببها فيقول : ( وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر ، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان ، وسبب الفحص عن ذلك ، كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بالمسلمين ، لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة ، والمغالاة في أثمانها ، والتبسط في المآكل والمشارب ، وخروجهم عن الحد في الجراءة والسلاطة ... وتحدث جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه ، فوعدهم بالإنصاف منهم ، فرفعوا قصة على لسان المسلمين قرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة ، تتضمن الشكوى من النصارى ، وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط ، فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم ، وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم ، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان ، وقرأ القاضي علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمة ، وقد أحضروه معهم ، حتى فرغ منه ، فإلتزم من حضر منهم بما فيه وأقروا به ، فعددت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها ، وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل ، ثم يعودون إليها كما فعلوه غير مرة فيما سلف ، فاستقر الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء ولو أظهروا الإسلام ، وأن لا يكره أحد منهم على إظهار الإسلام ، ويكتب بذلك إلى الأعمال ) ( القول الإبريزي ص 60 , وانظر الخطط 3/284 ) .
وقفة مع الأحداث !
لقد ذكر لنا المقريزي أسباب المشاحنات والنزاعات التي حدثت بين المسلمين والنصارى أنذاك , وهى أن النصارى كلما استتب لهم الأمر , وارتفعت منازلهم في الدولة , كادوا للمسلمين وأذوهم , فكان رد الفعل من عوام المسلمين منطقيًا إيذاء كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بهم , وعلى النصارى أن يدركوا أن سبب أي إضطهاد - مزعوم من قبلهم - , هو مكرهم وكيدهم وخبثهم وتعديهم على من حفظوا عليهم أنفسهم ودينهم وأموالهم وديارهم , فلا تلوموا إلا أنفسكم , فأنتم تجنون ما تزرعون , ومن أعمالكم سلط عليكم !
والعجيب في الأمر , أن يدعي بعض المؤرخين المسيحيين , أن دعوى تجبر النصارى على المسلمين , هى دعوى من صنع المسلمين أنذاك لإضطهاد المسيحيين , فتأمل !
ونحن من منطلق الشفقة على هؤلاء المؤرخين نقول لهم : ما الذي دفع المسلمين أنذاك ليزعموا دعواكم البالية ؟! فالأرض أرضهم , والحكم لدينهم , والجيش جيشهم , والسلطان معهم , والملك ملك دولتهم الإسلامية , أفمن كان حاله كذلك ويملك كل ذلك , إذا أراد النيل منكم والبطش بكم , أهو في حاجة لأن يدعي دعواكم البالية ؟! بل أهو في حاجة لأن يدعي أية دعوى ليبطش بكم ؟!
يا أهلنا من النصارى , إعلموا أن المسلمين أنفوا أن يصيروا غرضًا أو سببًا تنالون به شرف الإضطهاد في مؤلفاتكم !
ووالله لو كان الأمر كما تدعون , لذكره المؤرخون من المسلمين , فهم قد ذكروا مساويء الحكام المسلمين وظلمهم في بعض الفترات , بل ذكروا الخلاف الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم , وبينوا سقيمه من صحيحه , وهذا ليس بمستغرب على مؤرخينا , فهم كتبوا التاريخ من منطلق شهادة الصدق والإقرار بالحق حتى ولو كان في ظاهره ما يدين المسلمين , متبعين لأمر الله تعالى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }البقرة283 .
ولو كنا نريد البطش بكم لفعلنا ذلك منذ دخول عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر , أو فعلناه في أي وقت نريده , دون أن نزعم أي زعم فلا يوجد ما يمنعنا عن ذلك , لكننا محكمون بشرعنا الحنيف , الذي أمرنا بالقسط مع المعاهدين , ودفع الضر والظلم عنهم , والإلتزام بعهدنا فلا نغدر !
لقد ذكرت لجنة التاريخ القبطي في مؤلفها سالف الذكر , أسماء أشهر وأبرز الشخصيات المسيحية في كل قرن , ولم تكتف اللجنة بأسماء رجال الدين فقط , بل ذكرت سير مختصرة لأبرز الشخصيات المسيحية التي تفوقت في شتى المجالات العلمية والعملية , كالطب والهندسة والتجارة والوزارة , وكيف نالت هذه الشخصيات استحسان الولاة والأمراء المسلمين , فأكرموهم وأحسنوا إليهم , تقديرًا منهم للعلم والعمل والتفوق والريادة لأبناء الوطن الواحد مهما كانت انتماءاتهم وأديانهم , فكيف برز أمثال هؤلاء في ظل جو الإضطهاد المزعوم ؟!
يا أهلنا من النصارى , انظروا إلى حاضركم ليستبين لكم ماضيكم , من الذي يستغل جو العدل والسماحة للطعن في دين الأخر ورموزه عن طريق قنوات فضائية قذرة أبت إلا أن تكون كذلك ؟! من الذي يستغل جو العدل والسماحة ليفتن أتباع الدين الأخر بالطعن في دينهم عن طريق المؤلفات والكتيبات التي توزع في المحافل العامة عليهم ؟! من الذي يستغل جو العدل والسماحة ليقيم مؤسسات وشركات يعطى فيها المسلم نصف أجر المسيحي رغم قلة علم الأخير وخبراته ليجبره على اعتناق دينه ؟! من الذي يتقوى بالغرب لأرهبة أهله من أتباع الدين الأخر ؟!
رحم الله العلامة المقريزي إذ يقول : ( ولا يخفى أمرهم - أي النصارى - على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته ! ) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .
يجب على كل مسلم أن يقرأ التاريخ ليعلم ازدواجية الشخصية النصرانية المصرية , التي تركن إلى التجبر على المسلمين كلما سنحت لها الفرصة , فاليوم يرى المسلمون في مصر تجبر النصارى عليهم في وقت يتنعمون فيه بعدل الإسلام , بحركات التنصير في المصالح العامة تارة , وبالفضائيات القذرة تارة , وبالتقوي بالغرب المسيحي تارة , وبإرهاب الرهبان في الأديرة لعوام المسلمين في القرى تارة , فالأمر كما قال الله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27 .
ونحن نعلم أن هناك نصارى فيهم من الصدق والإقرار بالحق ما الله به أعلم , لذلك نحن نعرض هذه الأمور عليهم ونسألهم : أوجدتم عدلاً أفضل من عدل الإسلام ؟!
لنتعرف على إجابة أحدهم , وهو الدكتور / نبيل لوقا بباوي !
شهادة الدكتور نبيل لوقا بباوي !
الدكتور نبيل لوقا بباوي , أستاذ القانون والإقتصاد بكلية الشرطة والحقوق , وعضو جمعية الإخاء الديني , شهد شهادة عظيمة على سماحة الإسلام , فرغم أنه مسيحي أرثوذكسي يعتز بمسيحيته إلا أنه صدع بالحقيقة ولم يخش عش الدبابير من المتعصبين المسيحيين !
وسنستعرض هذه الشهادة – فيما له علاقة ببحثنا – من خلال مؤلفه " انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء " الناشر : دار البباوي للنشر , الطبعة الثانية .
يقول الدكتور نبيل لوقا بباوي : ( كان الشعب المصري القبطي الأرثوذكسي يعاني من شدة الفقر والإضطهاد الديني في ظل سيطرة الإمبراطورية البيزنطية , فقد فرضت عليه الضرائب الباهظة , والحاصلات الزراعية في مصر تذهب إلى بيزنطة , وكان البيزنطيون يكرهون أهالي مصر لأنهم عنيدون في الدخول إلى المسيحية الكاثوليكية ورغبتهم في البقاء على مسيحيتهم الأرثوذكسية وقد سار عمرو بن العاص إلى مصر في جيش من أربعة آلاف مقاتل ) ( انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء ص 147 ) .
ويصف لنا الدكتور نبيل لوقا إضطهاد الكاثوليك للأرثوذكس فيقول : ( في عام 631م حاول هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية أن يوحد العقيدة المسيحية مرة أخرى في جميع الولايات التابعة لإمبراطوريتة حسب المذهب الأريوسي ذي الطبيعتين للسيد المسيح , وأرسل حاكم جديد هو المقوقس الذي قام بإحراقهم أحياء - أي الأرثوذكس - وانتزاع أسنانهم , لدرجة أن شقيق الأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية قام الجنود الرومان بحرق أخيه متياس وأشعلوا فيه النار حيًا لرفضه الإعتراف بقرارات الإمبراطور هرقل الجديد , ويجمع جميع المؤرخين أن هذه الحماقات من جانب المقوقس جعلت الأقباط في مصر يكرهون حكم الدولة البيزنطية وكانوا يصلون أن ينجوا من شرور الجنود الرومان , ولشدة الإضطهاد من جنود الرومان هرب البطريرك الأنبا بنيامين وترك مدينة الإسكندرية وهرب للصعيد بعد أن رأى ما حدث لأخيه وللأقباط الأرثوذكس , وفي هذا الجو المأساوي الدموي حيث تذكر كتب التاريخ القبطي أن دماء الأقباط الأرثوذكس كانت تصل إلى ركب الخيول للجنود الرومان , وفي عام 639م أتى عمرو بن العاص بجيشه إلى مصر ومعه أربعة آلاف مقاتل , وفتح مصر في هذا الجو المأساوي الذي يعيش فيه الأقباط الأرثوذكس من ويلات القتل والعذاب على الجنود الرومان , وقد عقد الأمان مع المقوقس في نوفمبر 642م بدفع الجزية أو ضريبة الدفاع على أن تقوم القوات الإسلامية بحماية المسيحيين ويسمح لهم بمباشرة عقائدهم الدينية , وأصدر عمرو بن العاص بكتاب أمان للأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الثامن والثلاثين الذي كان هاربًا في الصعيد بالعودة , وهذا نص عهد الأمان : " أينما كان بطريرك الأقباط بنيامين نعهده بالحماية والأمان وعهد الله على الأقليات .. البطرك هى هنا في أمان واطمئنان لتولي أمر ديانته ويرعى أهل ملته " . ودخل بنيامين الإسكندرية في إحتفال شعبي بعد أن ظل مختفيًا في الصحراء في الصعيد لمدة ثلاثة عشر عامًا ) ( المصدر السابق ص 157-158 ) .
ويتحفنا الدكتور نبيل لوقا قائلاً : ( لقد وصل تسامح عمرو بن العاص مع الجنود الرومان البيزنطيين وأعدائه أنه نص في عقد الأمان المبرم مع قيرس أو المقوقس كما يطلق عليه أهل مصر الذي أبرم في عام 642م أنه سمح للجيش البيزنطي بالإنسحاب من مصر وأن يحمل جنوده أمتعتهم وأموالهم وأن يتعهد المسلمون ألا يتعرضوا للكنائس الخاصة بهم , هل يوجد تسامح أكثر من ذلك ! أن تترك أعداءك يخرجون أمام عينيك بأمتعهتهم وأسلحتهم وأنت تعلم أنهم سوف ينظمون أنفسهم مرة أخرى لمقاتلتك وقتل الجيوش الإسلامية ! ولكنها تعاليم الإسلام عندما تبرم , عقد الإمان يجب الإلتزام به , وأن القتال ليس هدفًا لذاته بل هو خطوة للدفاع عن النفس ولتأمين الدولة الإسلامية الحديثة ) ( المصدر السابق ص 158- 159) .
لا عجب يا دكتور لوقا , فمن كان نهجه القرآن وسنة العدنان – صلى الله عليه وسلم – لا يُستغرب أن يصدر منه مثل ذلك !
ولا يزال الدكتور نبيل لوقا مستمرًا في تعجبه فيقول : ( إن أهم شيء في مباديء الشريعة الإسلامية التي تطبق على غير المسلمين بعد دخول عمرو بن العاص هو حرية العقيدة لغير المسلمين في مصر , تطبيقًا لمبدأ " لا إكراه في الدين " الوارد في القرآن الكريم , دستور المسلمين , وفوق ذلك غير المسلمين وفي مصر شرائع ملتهم في نطاق الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق لأنها مسائل مرتبطة بالعقائد وشرائع الملة , خاصة أن الشريعة الإسلامية يحكمها مبدأ " واتركوهم لما يدينون " ) ( المصدر السابق ص 159 بنصه ) .
وماذا عن الجزية ؟! يقول الدكتور لوقا : ( بموجب عقد الأمان بين عمرو بن العاص والمقوقس , فرض على كل قبطي ديناران , ويعفى منها أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس , حيث يعفى منها القصر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب المرض والرهبان , وهذا مبلغ ضئيل جدًا إذا قارناه بالضرائب التي كان يحصل عليها الحاكم الروماني , وناهيك عن المجازر الجماعية التي كان ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس ) ( المصدر السابق ص 60 ) .
وقبل اتهام النصارى للدكتور نبيل لوقا بباوي بالخيانة العظمى , والتحزب للإسلام والمسلمين من أجل أغراض دنيوية , نسألهم : لماذا لا تنظرون إلى التاريخ بعين الإنصاف والتجرد من الحزبية ؟!
July 2008 - 10:51 AM
هل رحب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر ؟!
لقد أطال النصارى الحديث حول ترحيب الأقباط الأرثوذكس بالفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص , وزعموا أن هذا لم يحدث , واستدلوا بأقوال مؤرخين يعلم تعصبهم كل ناظر خبير في علم التاريخ , كالمدعو ألفريد بتلر في كتابه " الفتح العربي لمصر " ، ترجمة محمد فريد أبو حديد ، وإصدار الهيئة المصرية للكتاب عام 1989م .
فالنصارى يتشوقون للإطلاع على أي مصدر من شأنه الطعن في فتح المسلمين لمصر , حتى ولو كان هذا المصدر لكاتب يعلم تعصبه كل عاقل , ورغم وجود شهادات عدة , قديمة وحديثة , لمؤرخين معتبرين من النصارى العرب , منهم من كان للأحداث أقرب , تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأقباط رحبوا بالفتح الإسلامي لمصر , واعتبروه منفذ الخلاص لهم من الظلم والإضطهاد الكاثوليكي , إلا أن المتعصبين من النصارى تراهم يلقون بكل ذلك وراء ظهورهم , ويتمسكون بكتابات متعصبة لكتبة ليسوا من بني جلدتنا , ولكنهم من الذين حملوا الحقد الغربي الصليبي على ثروات العرب والمسلمين , كالمدعو ألفريد بتلر , فنشروا ثقافة الحقد والكراهية للإسلام والعرب في شتى محافلهم , ونقل عنهم حقدهم وكرههم , ثلة من المتعصبين , من النصارى العرب , كالقمص أنطونيوس الأنطونى صاحب كتاب " وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها " .
وقد نقل الأخير عن ألفريد بتلر في كتابه " الفتح العربي لمصر " الجزء الخاص بفتح مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه , وأول ما يتوقف أمامه قاريء كتاب ألفريد بتلر ذلك العنوان المتعصب " فتح العرب لمصر" لأنه لا يعبر عن الحقيقة , ففتح مصر لم يكن إنجازًا عربيًا ، وإنما كان إنجازًا إسلاميًا حول مجرى التاريخ , وليت شعري إذا كان الفتح عربيًا , فلماذا أخذ عمرو بن العاص من النصارى الجزية ودعاهم قبل أن يأخذها منهم إلى الإسلام والإيمان برسالته ؟!
بل لقد قال بتلر في كتابه ص 228 : ( سار عمرو فى جيش صغير من أربعة ألاف جندى (4000) أكثرهم من قبيلة عك , وإن الكندى يقول أن الثلث كانوا من قبيلة غامق , ويروى أبن دقماق : أنه كان مع جيش العرب جماعة من أسلم من الروم ومن أسلم من الفرس , وقد سماهم فى كتابه , وسار بهم من عند الحدود بين مصر وفلسطين حتى صار عند رفح وهى على مرحلة واحدة من العريش بأرض مصر ) .
وهذا الذي أثبته بتلر يؤكد أن الفتح كان إسلاميًا ولم يكن عربيًا بالمعنى العرقي , بل فتح ينطلق من أساس " عقائدي " ، وليس من أساس " عرقي" ، ولم يكن الفاتحون مجرد قبائل عربية من بدو الصحراء كما يردد الجهلة , بل كلهم مسلمون من بلاد وأمم متفرقة , جمعتهم العقيدة الربانية الصافية , لتخليص العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد , وإخراجهم من ظلمات الجهل والإضطهاد إلى نور العلم والسماحة والعدل !
وعن ترحيب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر يقول بتلر في تعصب صريح : ( وأنه لمن الجدير بالإلتفات أن هذا البطريرك الطريد- يقصد بنيامين - لم يحمله على الخروج من أختفائه فتح المسلمين لمصر وإستقرار أمرهم فى البلاد , ولا خروج جيوش الروم عنها , وليس أدل من هذا على إفتراء التاريخ على القبط , وإتهامهم كذباً أنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم ورأوا فيهم الخلاص , مع أنهم أعداء بلادهم , ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب لكان ذلك عن أمر بطريقهم أو رضائه , ولو رضى بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرها لما بقى فى منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب , ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئة إلا بعهد وأمان لا شرط فيه ) ( الفتح العربي لمصر ص 457 ) .
كلمات يتقطر منها الحقد والكراهية قطرًا قطرًا , رافضة ما جاء في أعظم كتب التاريخ عند النصارى أنفسهم , والثمن هو شحن النفوس التي هى للتعصب أقرب وعن الإنصاف أبعد !
يقول ألفريد بتلر : " وأنه لمن الجدير بالإلتفات أن هذا البطريرك الطريد- يقصد بنيامين - لم يحمله على الخروج من أختفائة فتح المسلمين لمصر وإستقرار أمرهم فى البلاد " . لقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه , إذ ذكر ألفريد بتلر في كتابه المذكور , عهد الأمان الذي كتبه عمرو بن العاص للبابا بنيامين : ( كتب عمرو بن العاص للبابا بنيامين وكان البابا مختفيًا فى مكان مجهول لا يعلم به أحد , وكانت صورة الوعد كما يلى : " أينما كان بطريق القبط بنيامين , نعده الحماية والأمان , وعهد الله , فليأت البطريرك إلى هنا فى أمان وإطمئنان ليلى أمر ديانته ويرعى أهل ملته " ) ( الفتح العربي لمصر ص 455 ) .
فكيف يذكر بتلر أن البابا بنيامين لم يخرج من مخبئه بسبب عهد الأمان , وقد ذكر هو بنفسه عهد الأمان , وفيه طلب خروج البابا بنيامين ليتولى أمر ديانته , فما الذي أخرجه إذًا يا بتلر؟! ولماذا لم يخرج في أي وقت طيلة الثلاثة عشر عامًا ؟!
لقد أصدر عمرو بن العاص عهد الأمان فور استقرار البلاد على حكم الإسلام , وانتهاء فترة النزاع بينه وبين الروم الكاثوليك , وقد نطق ألفريد بتلر بذكر هذه النزاعات في مؤلفه , والأنبا بنيامين انتظر أيضًا حتى يستتب الأمر لأي من الفريقين , فيقرر بعده ما يري , فمن الطبيعي والمنطقي أن الأنبا بنيامين كان يجول في فكره أنه ربما استبدل القدر المعتدي بمعتدي أخر , لذلك ظل طيلة هذه السنوات الثلاثة , التي جاهد فيها عمرو بن العاص رض الله عنه حتى صارت كلمة الله هي العليا في البلاد , يراقب ويتابع الأحداث عن بعد ليرى لمن ستكون الغلبة في النهاية , فلما استقر الأمر للمسلمين , وعلم عدل الإسلام وسماحته بالأعداء الكاثوليك إذ تركهم ينسحبوا حاملين أمتعتهم وأموالهم , ورأى عهد الأمان له ولأتباعه , خرج من فوره من مخبئه , ونتحدى أن يثبت لنا بتلر أو غيره من أي مصدر تاريخي غير ذلك , بل هو الزعم والأماني ! ونتحدى أن يثبت لنا بتلر أو غيره من أي مصدر تاريخي أن عمرو بن العاص خان عهده مع الأنبا بنيامين , بل لقد أثبتنا أن الأقباط هم أول من أخلفوا العهود وأرادوا زعزعة أمن البلاد بعد استقراره .
شهادة يوحنا النقيوسي !
في أقدم كتب التاريخ النصرانية حديث عن سماحة عمرو بن العاص رضي الله عنه مع نصارى مصر ، وكيف أن تحرير الإسلام لهم من قهر الرومان ، وهزيمة الاستعمار الروماني بمصر على يد الجيش الإسلامي الفاتح إنما كان انتقامًا إلهيًّا من ظلم الرومان لمصر واضطهادهم لنصارى مصر !
ففي تاريخ "يوحنا النقيوسي" أسقف نقيوس ( إبشاتي بالمنوفية ) , وأحد أعظم رجال الكنيسة القبطية في القرن السابع , وهو معاصر للفتح الإسلامي وشاهد عليه : ( إن الله الذي يصون الحق لم يهمل العالم ، وحكم على الظالمين ، ولم يرحمهم لتجرّئهم عليه ، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين) ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة مصر.. وكان هرقل حزينًا.. وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر ، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكّامهم مرض هرقل ومات.. وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقوى كل يوم في عمله ، ويأخذ الضرائب التي حددها ، ولم يأخذ شيئًا من مال الكنائس ، ولم يرتكب شيئًا ما، سلبًا أو نهبًا، وحافَظ عليها (الكنائس) طوال الأيام ) ( تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي ص 201-202 : رؤية قبطية للفتح الإسلامي, ترجمة وتحقيق د. عمر صابر عبد الجليل , الطبعة الأولى 2000م , القاهرة - عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ) .
إنها شهادة شاهد عيان نصراني على هذه السماحة الإسلامية التي تجسدت على أرض الواقع . ومتى؟! قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان ، وهي سماحة نابعة من الدين الإسلامي ، وليست كحقوق المواطنة التي لم تعرفها المجتمعات العلمانية إلا على أنقاض الدين !
شهادة ساويرس بن المقفع !
لقد أكد الدكتور نبيل لوقا بباوي ترحيب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر ناقلاً عن أعظم رجال النصارى في القرن العاشر , وهو ساويرس بن المقفع صاحب " تاريخ البطاركة " , ما يثبت أن النصارى رحبوا بالفتح الإسلامي لمصر , يقول الدكتور نبيل لوقا : ( ويذكر ساويرس – بن المقفع – في كتابه " سير الأباء البطاركة " وهو أحد الكتاب المسيحيين المعروفين : " أنه كان من نتائج عودة الأنبا بنيامين إلى كرسي البطريركية أن رجع كثير من المصريين إلى المذهب الأرثوذكسي بعد أن كانوا قد نبذوه نتيجة لإضطهاد هرقل قيصر الروم , وبعد أن تم لبنيامين لم شمل قومه من القبط , اتجه إلى بناء ما كان هرقل قد هدمه من الكنائس والأديرة , أي أن المذهب الأرثوذكسي بدأ يستعيد مكانته في ظل الحكم العربي ولا عجب إذا عم السرور والفرح على أهل مصر جميعًا " ) ( انتشار الإسلام ص 162-163 ) .
ويقول الدكتور نبيل لوقا أيضًا : ( إن المسيحيين في مصر تلقوا أشكال العذاب بكل أنواعه على يد الدولة الرومانية ولم تضع الدولة البيزنطية أمامهم إلا خيارين , الخيار الأول هو عبادة الأوثان أي عبادة الإمبراطور , والخيار الثاني هو القتل , وبعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للدولة البيزنطية وضعوا المسيحيين في مصر أمام خيارين اثنين , الخيار الأول القتل , والخيار الثاني هو ترك عقائدهم الأرثوذكسية في الديانة المسيحية , واتباع العقائد الكاثوليكية التي يرفضونها واستشهدوا في كل العصور من أجل عقائدهم الأرثوذكسية , لذلك حينما أتى عمرو بن العاص وعرض تخليصهم من عذابهم على أن يدفعوا الجزية أو ضريبة الدفاع مقابل الدفاع عنهم وتخليصهم من ظلمة الدولة الرومانية على أن يباشروا عقائدهم الدينية بحرية تامة حسب معتقداتهم الدينية في طبيعة السيد المسيح رحبوا بذلك ) ( انتشار الإسلام ص 159 ) .
وعن مساعدة الأقباط الأرثوذكس للمسلمين كدليل على رغبتهم في هزيمة الكاثوليك , فهذا ما أكده الكاثوليك أنفسهم كما ذكرنا , وفي هذا يقول الدكتور نبيل لوقا بباوي : ( بعد ذلك الإستعراض التاريخي من واقع أمهات الكتب المسيحية لا يستطيع أحد أن يؤيد ما يقوله المستشرقون بأن الإسلام انتشر بحد السيف في مصر بل بالحقيقة أن أهل البلاد من الأقباط الأرثوذكس في مصر كانت لديهم رغبة قوية في هزيمة الجيوش البيزنطية الرومانية , لذلك قام الأقباط الأرثوذكس بإرشاد قوات عمرو بن العاص في كل تجولاتها في مصر لتخلصهم من حمامات الدم والمقابر الجماعية التي كان ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس في مصر والشام ) ( المصدر السابق ص 158 ) .
وأنقل هذا النص ، ليس من كتاب ألفريد بتلر ، إنما أنقله على لسان الراهب أنطونيوس الأنطوني في كتابه " وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها " نقلاً عن ألفريد بتلر ، ليستشهد به – أي الراهب أنطونيوس - على أن الله سبحانه وتعالى شاء لنصارى مصر ، أن يكون إنقاذهم من الفناء والهلاك والعدم ، على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص ، فيقول الراهب (ص64) : ( إن بنيامين سَعِدَ كثيرًا بعمرو ، كما رحب عمرو ببنيامين ، وطلب عمرو بن العاص من بنيامين أن يدعو له حتى يمضي ليحرر أرض ليبيا هي الأخرى من ظلم الرومان الصليبيين ، فدعا له البابا بنيامين ، وقال له كلامًا طيبًا أعجبه والحاضرين ، ثم انصرف مكرمًًا مبجلاً ) .
ويستطرد أنطونيوس قائلاً (ص65) : ( كل ذلك حدا بالمؤرخ بتلر أن يقول : "ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربهم ، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة (الأرثوذكسية) قبل الضياع والهلاك" ) .
فدع عنك أيها القاريء النصراني المنصف حقد المستشرقين , ومن ردد أقوالهم من المتعصبين , فهم لا يريدون إلا الفتنة , وقد كانوا دائمًا قارعي طبول الحروب الصليبية على العالم الإسلامي حتى يومنا هذا , فهم كتبوا مؤلفاتهم وقلوبهم المريضة ونفوسهم الحاقدة تدفعهم لمزيد من الكراهية بإسم الصليب , وبإسم الإضطهاد المزعوم , لكن الله أنطقهم بالحق , ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه !
شهادة المتعصبين !
(( نقلاً عن مقال للأستاذ الصحفي / أبو إسلام أحمد عبد الله ))
سوف أعتمد ثلاثة مصادر فقط على سبيل الإسترشاد والإستشهاد , واعلم عزيزي القاريء أن أصحاب هذه المصادر التاريخية القادم ذكرها وذكر شهاداتها ، هم من أشد المتعصبين ضد الإسلام , وهم :
المصدر الأول هو : الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني في كتابة (وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها) ، المطبوع بدار الطباعة القومية – القاهرة ، ويحمل رقم إيداع 9836/95 ، والصادر في 30 يناير 1996 بحسب مقدمة المؤلف ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث ، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر) ، وعلى ما يبدوا أن هذا الكتاب الضخم طبع ونشر على نفقة دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر .
المصدر الثاني هو : مرجع أساسي في الدراسات الكنسية للقس منسي يوحنا ، في كتابه (تاريخ الكنيسة القبطية) ، إصدار مكتبة المحبة بالقاهرة ، عام 1983 بحسب رقم الإيداع ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) ، وهو لا يقل حقداً وكراهية للإسلام والمسلمين عن سابقه .
أما المصدر الثالث هو : القمص تادرس يعقوب ملطي ، في كتابه (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية) الصادر بدون تاريخ عن كنيستي الإسكندرية بمصر وسانت ماري بكندا ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) وكأنها صك الاعتماد المقدس لكل واحد من هذه المصادر .
فماذا يقول هؤلاء الكنسيين عن فتح مصر وعن عمرو بن العاص ، برغم ما هم عليه من تعصب وكره وحقد وغل مقيت ؟!
المصدر الأول : يقول الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني (ص 62) : (وإن كنا نذكر مظالم العرب الفاتحين فلابد – إنصافاً للحقيقة – أن نقول أن هذه المظالم لم تكن عامة أو شاملة خاصة في الفترة الأولى للفتح العربي، فقد اكتشف البروفسور جروهمان وثيقتين برديتين يرجع تاريخهما إلى سنة 22 هـ- 642م ، مكتوبتين باليونانية ، وملحق بهما نص آخر بالعربية :
الوثيقة الأولى: إيصال حرره على نفسه أحد أمراء الجند يدعى الأمير عبد الله بأنه استلم خمساً وستين نعجة لإطعام الجند الذين معه، وقد حررها الشماس يوحنا مسجل العقود ، في اليوم الثلاثين من شهر برمودة من السنة المذكورة أولاً ، وقد جاء بظهر الورقة ما يلي : "شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول" .
أما الوثيقة الثانية: فنصها : "باسم الله ، أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس ، وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع ، لفرقة القوطة ، علفاً بثلاث دراهم كل واحد منها (بعرورتين) وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف" .
ويعلق الأستاذ جروهمان على الوثيقتين بقوله : "إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب ، قلما نراها من شعب منتصر" .
ثم يستطرد الراهب القمص قائلاً (ص 64) : " كان البابا بنيامين (البطريرك الـ 38) هارباً من قيرس (المقوقس) البطريرك الملكاني ، وبعد الهزيمة التي مني بها الروم ورحيل جيشهم عن مصر ، غدا القبط في مأمن من الخوف ، وبدأوا يشعرون بالحرية الدينية ، ولما علم عمرو باختفاء البابا القبطي بنيامين ، كتب كتاب أمان للبابا بنيامين يقول فيه : "الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط ، له العهد والأمان والسلامة من الله ، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته" ، كما يقول : "أن عمرو وهو في طريق عودته بعد فتح الإسكندرية ، خرج للقائه رهبان وادي النطرون، فلما رأى "طاعتهم" سلمهم كتاب الأمان للبابا ، فلم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين ، إلا وخرج من مخبئه وعاد إلى الإسكندرية بعد أن ظل غائباً ثلاثة عشر عاماً " .
المصدر الثاني : أما القس منسي يوحنا ، فقال كلاماً غير مسبوق في أي مصدر من المصادر الإسلامية ، فقال (ص 306) : "وكان جيش العرب في فاتحة هذا القرن ، حاملاً لواء الظفر في كل مكان ، وظل يخترق الهضاب والبطاح ، ويجوب الفيافي والبلاد ، حتى وصل إلى حدود مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ، فدخل مدينة العريش وذلك سنة 639 م ، ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر ، ولما استولى عليها وجد بها "أرمانوسة" بنت المقوقس [على رأس جيش صليبي محارب] فلم يمسها بأذى ، ولم يتعرض لها بشرِّ ، بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف ، مكرمة الجانب ، معززة الخاطر ، فَعَدَّ المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها حسنة له" .
ثم يستطرد القس منسي يوحنا قائلاً (ص 307) : "فجمع المقوقس رجال حكومته ، وذهب للتفاوض مع رسل من قِبَل عمرو . فبدأ وفد الروم بالتهديد والوعيد للمسلمين ، بقتلهم وإفنائهم وأنه لا بديل أمام المسلمين غير الموت أو الرحيل ، فلما بدأ وفد المسلمين ، فلم يفعل كوفد أهل الصليب إنما طرح أمامهم ثلاثة بدائل : أولها الإسلام وثانيها الاستسلام مع دفع الجزية لقاء قيام المسلمين بتسيير أمور البلاد ، ثم كان الخيار الثالث والأخير وهو الحرب والقتال الذي طرحة جيش الصليبيين الروم المحتلين لمصر كاختيار لا بديل .
فاتفق رأيهم على إيثار الاستسلام والجزية ، واجتمع عمرو والمقوقس وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها : أن يُعطَي الأمان للأقباط ، ولمن أراد البقاء بمصر من الروم ، على أنفسهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وفي نظير ذلك يدفع كل قبطي "دينارين" ماعدا : الشيخ ، والولد البالغ 13 سنة ، والمرأة" .
ويضيف القس منسي يوحنا : "وذكر المؤرخون أنه بعد استتباب السلطان للعرب في مصر ، وبينما كان الفاتح العربي يشتغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية ، سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهات ، أن أمة جديدة ملكت البلاد ، فسار منهم إلى عمرو سبعون آلفاً [يصفهم القس منسي يوحنا في دقة شديدة قائلاً] حفاة الأقدام ، بثياب ممزقة ، يحمل كل واحد منهم عكاز ... تقدموا إليه ، وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية ، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه ، [وعلى الفور ، وبورع الأتقياء ، وتواضع المنتصرين المحكومين بشرع الله] أجاب عمرو طلبهم ، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه" .
ولم يكتف القس منسي بذلك كله ، فيقول القس منسي ما يجعل المسلم منبهراً بما قال: "خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور ، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد ، في وسط [منطقة] الفسطاط التي جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة ، على حين أنه لم يكن للمسلمين [إلى هذا الوقت] معبد ، فكانوا يصلون ويخطبون في الخلاء" .
أما عن موقف نصارى مصر من عمرو بن العاص ، فيقول القس (ص209) : "أنه قَرَّب إليه الأقباط ، وردّ إليهم جميع كنائسهم التي اغتصبها الرومان" .
المصدر الثالث : فإذا ما أتينا إلى القمص تادرس يعقوب ملطي ، فنجدة يقول (ص 77) : "وسط هذا الجو المتوتر ، حيث كان قيرس لا عمل له سوى متابعة الأساقفة والكهنة والرهبان ، حتى في البراري ، بحملة عسكرية يعذب ويقتل ، وصل الزحف العربي إلى مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ... ثم انطلق العرب نحو الإسكندرية (ص79) : إذ فقدت البلاد وحدتها ، وحُرِمَ الولاة المعينون من قبل الإمبراطور من كل خبرة عسكرية ، لا همَّ لهم سوى جمع الضرائب ومقاومة الكنيسة ، لم يفكر أحدهم في مساعدة أخيه ، إذ تفشى فيهم روح عدم المبالاة" ، هذا ويرى المستشرق الفرد بتلر : "أنه من الخطأ أن يُدَّعَى أن الأقباط كان في استطاعتهم في ذلك الوقت أن يجتمعوا أو يفاوضوا العرب" .
ثم يستطرد القس الملطي ، فيقول تحت عنوان (عودة البابا بنيامين) : "وإذ استتب الأمر دار النقاش بينه وبين الأقباط حول عودة البابا وأساقفته ، ولم يطلب عمرو من المصريين سوى الجزية ، بعد إلغاء الضرائب البيزنطية الفادحة [وكانت أربعة وعشرون نوعاً من الضرائب] وكان معتدلاً في المبلغ الذي يطلبه .... هذا وقد ترك للمصريين حرية العبادة ، وحرية التصرف في الأمور القضائية والإدارية ، بل وعيَّن بعضاً من الأقباط مديرين في جهات كثيرة" .
شهادة "د/ عزيز سوريال عطية"
أحد أعضاء المجلس الملي
توفي « عزيز سوريال عطية » عام 1988م . كان أستاذًا في التاريخ بجامعة الإسكندرية، وأحد أعضاء المجلس الملي، ومديرًا لمعهد الدراسات القبطية.
الرجل من علماء الأقباط إذن ، ولا يُنتظر منه محاباة المسلمين بحال .
أضف إلى هذا أن الكتابين اللذين سننقل منهما الاقتباسات ، ألفهما "د/ عزيز" بالإنجليزية ، فهو لا يخاطب مسلمي مصر ابتداء ولا غيرهم . وعليه ، فيُمتنع أيضًا محاباته لهم .
الكتاب الأول :
الحروب الصليبية وتأثيرها على العلاقات بين الشرق والغرب ، للدكتور عزيز سوريال عطية ، ترجمة الدكتور فيليب صابر سيف ، ط2 ، دار الثقافة بالقاهرة .
ص 19 :
(( وقد تم فتح مصر بسهولة نظرًا لعدم اشتراك السكان الأقباط في المعركة المرتقبة . فطالما عذب الحكام البيزنطيون المصريين أبناء النيل ... ومن الناحية الأخرى نجد أن سماحة العرب تجلت في الوعد بترك حرية دينية أوسع مدى ، مع فرض جزية أقل مما كان يحصله البيزنطيون ))
ص 27 :
(( وعندما كتب ثيودسيوس بطريرك بيت المقدس إلى اغناطيوس بطريرك القسطنطينية عام 869 قال إن العرب المسلمين عادلون وأنهم لا يضايقون المسيحيين بأية طريقة من الطرق .
والواقع أن قصة التسامح في صدر الإسلام ، وكذلك على عهد الخلفاء الأولين ، لم تكتب بعد بكل تفاصيلها . بل أكثر من ذلك ، تعتبر صفة مميزة . ولكن مؤرخي الغرب اختلفوا فيها أو أهملوها .
ومع أن هناك فترات متباعدة حدثت فيها اضطهادات ، فإنه يجب أن يكون واضحًا أن هذه الاضطهادات اقترنت بأهواء شخصية لبعض الخلفاء مثلما حدث من الخليفة الحاكم (996-1020) الذي يوصف أحيانًا باسم "نيرون مصر" وذلك بسبب قسوته على المسيحيين وتدميره للقبر المقدس عام 1009 . ولكن "الحاكم" كان مجنونًا . فقد أساء إلى المسلمين أيضًا . وكانت نهايته مظلمة غامضة . فقد قيل إنه قتل في صحراء حلوان وتولى خدمه قتله . وهناك رواية أخرى - لم تثبت صحتها بعد - تقول إنه اعتزل متخفيًا في دير قبطي مهجور حيث كفر عن بشاعة أعماله .
وإذا نظرنا إلى الغرب ، وجدنا أن الإسلام فيه لم يقل تسامحًا . فقد دهش الأسبان عندما استعادوا طليطلة ، وكذلك النورمانديون عندما استعادوا صقلية ، لأنهم وجدوا الكنائس المسيحية لم يسمها سوء ، كما وجدوا رجال الدين المسيحي يقومون بالشعائر الدينية دون تدخل أو إزعاج . بل إن تعاون العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود في أيبيريا [أسبانيا والبرتغال الآن] ساعد على إبراز عصر النهضة في القرن الثاني عشر )) .
الكتاب الثاني :
تاريخ المسيحية الشرقية ، تأليف عزيز سوريال عطية ، ترجمة إسحاق عبيد ، المجلس الأعلى للثقافة 2005 م
ص 14:
(( ولا بد لنا أن نعترف في هذا المقام ، وأنا في الأساس من زمرة المؤرخين ، أنني أيضًا عضو في الكنيسة القبطية بحكم مولدي وتنشئتي . ولذا فليس غريبًا أن يستشعر القارئ حنوًا من جانبنا يشي بعبق وتراث الكنائس الشرقية ))
قلت (متعلم) : أحببت البدء بهذا الاقتباس ، حتى لا يتهوك متهوك بأن الرجل كان يحابي المسلمين . وهذا فضلاً عما قلناه سابقـًا في بداية المشاركة .
ص 104 :
(( أما العرب ، فقد أتوا لتحرير القبط من هذه الأغلال البيزنطية ، إذ كان موقفهم من "أهل الكتاب" أو "أهل الذمة" موقفًا كريمًا وسمحًا ، تأكدت فحواه من واقع "العهد العمري" الذي كفل للأقباط حريتهم الدينية بشكل لم ينعموا به أبدًا تحت النير البيزنطي . ولقد اتضح هذا الموقف العربي الكريم بعد أن استقر الحكم العربي في مصر ، فلقد خرج البطريرك الشريد "بنيامين" من مخبئه في الصحاري لمدة عشر سنوات ، واستقبله القائد عمرو بن العاص باحترام شديد ، ثم أعاده إلى منصبه في الإسكندرية معززًا مكرمًا ليرعى شئون كنيسته . وأصدر البطريرك بنيامين قرارًا بالعفو عن ذلك النفر من الأقباط الذين كانوا قد أجبروا على اعتناق مذهب "الإرادة الواحدة" ، كما أعاد إعمار الكثير من الكنائس والأديرة .
وقد شهد عصر "بنيامين" ومن تلاه من بطاركة في ظل الفتح العربي نهضة لم يسبق لها مثيل من شعور ديني قومي ، وانتعاش في الفنون والآداب ، في مناخ حر تمامًا ، لا تنغصه المؤثرات والضغوط البيزنطية .
كذلك عهد العرب إلى الأقباط بالمناصب الحكومية التي كان يحتلها البيزنطيون .
والحق أن العرب قد أبدوا تسامحًا كريمًا مع جميع الطوائف المسيحية على مختلف انتمائاتها : من منافزة ، من أتباع "الإرادة الواحدة" ، وغيرهم .
كذلك أبقى العرب على بعض الموظفين الهامين من بقايا البيزنطيين من أمثال "مينا" حاكم الفيوم .
ويعتقد "ألفرد بتلر" - مؤرخ الفتح العربي الشهير - أن هؤلاء الثلاثة قد اعتنقوا الإسلام ، ويرجح أيضًا أن سيروس نفسه قد اعتنق الإسلام سرًا ))
ص 105 :
يحكي "د/ عزيز" عن ضريبة جمعها "عبد الله بن سعد بن ابي السرح" رضي الله عنه :
(( ولقد أدى ثقل هذه الضريبة إلى تذمر بين أهل مصر ، بلغ أشده سنة 829/830م بين البشموريين في أحراش الدلتا ، وقد تم القضاء على هذه الثورة ، كما لجأ بعض أفرادها إلى بلاد الشام . على أن هذا لا يعني عدم رضا الأقباط عن الفتح العربي ؛ إذ أن الشعور العام كان يعبر عن الارتياح ، فالعرب هم الذين أزاحوا كابوس البيزنطيين عن صدور الأقباط )) .
ص 106 :
(( ولكي تعدد المكاسب التي جناها الأقباط من الفتح العربي ، لا بد وأن نذكر في المقام الأول تحريرهم من العنت والاضطهاد الديني من جانب السلطات البيزنطية وبطاركتها . كذلك تمكن الأقباط من ضم الكثير من الكنائس الملكانية ومؤسسات دينية أخرى إلى الكنيسة القبطية بعد ان تركها البيزنطيون . وفي الإدارة المحلية ، صارت الوظائف شبه حكر على الأقباط دون غيرهم ، فمنهم الكتبة وجامعو الضرائب والقضاة المحليون ، كما أن الثقافة القبطية شهدت انتعاشًا هائلاً بعد أن رحل البيزنطيون عن البلاد )) .
ص 106 :
(( ولم تكن بعض المشكلات التي واجهها الأقباط نتيجة لسياسة عامة ، وإنما كانت ترجع إلى تصرف فردي من جانب بعض الولاة ، ولا ينكر أحد أن الأقباط قد نعموا بأشياء لم يكونوا يحلمون بها من قبل تحت قبضة البيزنطيين . أما الحالات الاستثنائية من الضيق ، من قبيل ما حدث على عهد الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" مثلاً ، فإنما مرجعه شخص "الحاكم" نفسه ، الذي كان متقلب الطبع والمزاج مع الجميع دون استثناء . ومجمل القول أن الأقباط تحت مظلة الحكم العربي قد حافظوا على تراث أجدادهم ، كما نظر إليهم الحكام العرب وجيرانهم المسلمون بكل تقدير واحترام . ومن ناحية أخرى اندمج الأقباط لعنصر إيجابي فعال في جسم الأمة العربية الإسلامية ، دون أن يفقدوا هويتهم الدينية أو تراثهم العريق )) .
ص 107 :
(( ولقد تمرد المصريون بسبب ثقل الضرائب على كواهلهم ، لأن دخولهم كانت متدهورة ، فثاروا خمس مرات ما بين أعوام 739 و 773م . ولم تكن هذه الثورات من جانب الأقباط وحدهم ، وإنما شارك فيها إخوانهم المسلمون أيضًا الذين تعرضوا للمعاناة الاقتصادية نفسها . ولعل أكبر هذه الثورات الشعبية كانت ثورة البشموريين سنة 831م أثناء خلافة المأمون ))
ص 114 :
(( أما بالنسبة للأقباط ، فقد كانت الحملات الصليبية تمثل أشد الكوارث هولاً على المجتمعات المسيحية الشرقية . فقبل هجمة هؤلاء الفرنجة على الأراضي المقدسة ، كان المسيحيون الشرقيون في الدولة الإسلامية يمثلون جزءًا فاعلاً ومنسجمًا في المجتمع ، مع الحفاظ على خصوصيتهم الدينية . وقد كسب المسيحيون احترام الجميع بما في ذلك الخلفاء أنفسهم ، كما أن الكثيرين منهم قد شغلوا مناصب هامة في الإدارة من كتبة وجامعي ضرائب ومشرفين على خزانة الخلافة نفسها . وكان هؤلاء الموظفون المسيحيون محل تقدير الحكام وثقتهم . ولكن الحملات الصليبية التي هجمت على العالم الإسلامي - حاملة علامة الصليب - قد ولدت كراهية مريرة في نفوس الناس ضد علاقة الصليب التي ارتبطت هنا بالإثم والعدوان . وهكذا جرت الصليبيات البلاء الكثير على المسيحيين الشرقيين . ومن ناحية أخرى ، نظر الصليبيون اللاجئين وهم من أتباع الكنيسة الرومانية إلى المسيحيين الشرقيين من منافزة وغيرهم على أنهم "انفصاليون" وأشد سوءًا من الهراطقة ، يستوي في ذلك - عندهم - القبطي واليعقوبي والأرميني ، فكلهم هراطقة . أما الطائفة الشرقية الوحيدة التي حظيت برضا هؤلاء الصليبيين فكانت جماعة الموارنة في لبنان ، الذين بادروا بإعلان تبعيتهم للكنيسة الرومانية . ولقد وضحت عداوة الصليبيين للطوائف المسيحية الشرقية ، عندما قاموا بمنعهم من الحج إلى القدس وكنيسة الضريح المقدس . وكان الأقباط حريصين طوال تاريخهم على القيام بهذا الحج إلى بيت المقدس ، ولذا فإن موقف الصليبيين العدائي هذا قد أصابهم بالأسى الشديد )) .
ص 117 :
(( ويُذكر أيضًا أن الأقباط في مدينة المنصور قد أبلوا بلاءً حسنًا في القتال مع إخوانهم المسلمين ضد حملة الملك الفرنسي "لويس التاسع" على مدينة المنصورة (1249-1250) . )) .
تذكير
إن "د/ عزيز سوريال" هذا هو الذي جلب "موسوعة الآباء الأولين" للأقباط ، عندما أهداها إلى "الأب متى المسكين" ، الذي كان قد بدأ التوجه إلى تأصيل دينه من "فكر الآباء الأولين" .. وبدأ الأقباط في التعرف على أقوال آبائهم الأولين من نصوصهم المباشرة .. ولا أدري كيف كانوا يؤصلون دينهم قبل هذا !
بالطبع ، حدثت ثورة في فكر "متى المسكين" وتابعه عليها كثيرون ، وكان ما كان بينه وبين "شنودة" وأتباعه الذين يصنفون "ماكس ميشيل" المنشق و"جورج حبيب بباوي" المتمرد أتباعـًا لمدرسة "متى المسكين" .
المهم ، أن كلا الفريقين ، والأقباط جميعـًا ، يدينون بالفضل ويقرون به للدكتور / عزيز سوريال ، الذي فتح أمامهم عالم الآباء الأولين .
لقد إعتمد د/ عزيز سوريال عطية في مؤلفاته العديدة عن الأقباط وتاريخهم وحضارتهم على مرجع أساسي وهام , وهو : " تاريخ الأمة القبطية " للمؤرخ الأرثوذكسي / يعقوب نخلة روفيلة , ويعد هذا الكتاب أول كتاب باللغة العربية يتناول تاريخ الأقباط معتمدًا في مادته على المخطوطات المحفوظة بالأديرة والكنائس القديمة , وهذا الكتاب هو ما سنتبع النقل عنه إن شاء الله .
وسنبدأ بشهادة المؤرخ / يعقوب نخلة روفيلة عن الفتح الإسلامي لمصر .
شهادة المؤرخ / يعقوب نخلة روفيلة
صاحب كتاب " تاريخ الأمة القبطية "
يعد كتاب " تاريخ الأمة القبطية " أول كتاب باللغة العربية تحدث عن تاريخ الأقباط معتمدًا في مادته على المخطوطات الموجودة بالأديرة والكنائس القديمة , وقد كتبه العلامة المؤرخ المسيحي / يعقوب نخلة روفيلة منذ أكثر من مائة عام , وتمت طباعته في " مطبعة التوفيق القبطية الأرثوذكسية " عام 1899م حسب ما جاء في في نهاية خاتمة مؤلف الكتاب , وسوف نعتمد في نقلنا عنه على طبعته الثانية .
وحسب القاريء على أهمية هذا الكتاب , هو إعتماد جميع الدارسين في مجال التاريخ القبطي عليه , وقد إستعان به المؤرخ الكبير / عزيز سوريال عطية في كتاباته العديدة حول تاريخ الأقباط وحضارتهم .
وسنستعرض من خلال هذا المرجع الهام , المراحل التي مر بها الأقباط في ظل الحكم الإسلامي بداية من الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه .
الأقباط تحت حكم الرومانيين والفتح الإسلامي لمصر !
يقول المؤرخ يعقوب روفيلة تحت عنوان " الأقباط تحت حكم الرومانيين " : ( ... وبقيت مصر في يد الفرس نحو عشر سنوات ساموا فيها المصريين الخسف والعذاب أشكالاً , واستمروا على ذلك إلى أن قام هرقل ملك الروم وقاتلهم , وهزمهم واسترجع البلاد من يدهم , ولكن لم ينل أقباط مصر مع الأسف من هذا التغيير خيرًا بخلاف ما كانوا يتوقعونه من أن الحوادث علمته والتجارب ربته , بل كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار فإن هرقل بعدما خلص البلاد من يد الفرس حول نظره إلى تنفيذ الغرض الأصلي الذي كان يسعى وراءه الملوك سلفاؤه , وهو توحيد العقيدة النصرانية , وجعلها واحدة في كل المملكة , ولما لم يجد منهم إلا الرفض والإباء , إلتجأ في تنفيذ غرضه هذا إلى القوة والشدة بحد السيف فقتل كثيرًا من السوريين والمصريين , وإستباح دماءهم وسلب أموالهم وعزل البابا بنيامين بطريرك الأقباط وعين بدله ممن على مذهبه ثم طلبه ( بنيامين ) ليقتله فهرب واختفى من وجهه في دير صغير بالصعيد , وبقي مختفيًا فيه إلى مجيء العرب واستيلائهم على مصر ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 34 -35 ) .
ثم يستطرد المؤرخ / يعقوب روفيلة قائلاً : ( وبينما كان الملك هرقل مهتمًا بتأييد مذهبه وتعذيب مخالفيه في سوريا ومصر , متشاغلاً بذلك عن إجراء ما فيه حفظ البلاد وصونها وراحة العباد وتنظيم أحوال المملكة ولـمّ شعثها , ظهرت الدولة العربية الإسلامية في شبه الجزيرة العربية أوائل الجيل السابع للميلاد , وكان ظهورها قاضيًا على مملكة الروم الشرقية بالويل والخراب ) ( المصدر السابق ص 37 ) .
ويحدثنا المؤرخ / يعقوب روفيلة عن عمرو بن العاص فيقول : ( وكان بين قواد جنود العرب رجل يسمى عمرو بن العاص , اشتهر بالبسالة والشجاعة وإصابة الرأي وحسن التدبير , وجاء في بعض الروايات أنه كان قبل الإسلام يتعاطى التجارة فجاء إلى مصر غير مرة ورأى بالعيان ما كانت عليه البلاد من سوء الحال وميل الأقباط للتخلص من نير الرومان الثقيل فأشار على الخليفة بفتح مصر ) ( المصدر السابق ص 38 ) .
ويستطرد المؤرخ يعقوب قائلاً : ( وصار عمرو يخترق الهضاب والبطاح ويجوب الفيافي والبلاد حتى وصل إلى مصر , فدخل مدينة العريش سنة 639للميلاد أي سنة 18 للهجرة ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر , ولما إستولى عليها وجد بها أرمانوسة بنت المقوقس , فلم يمسسها بأذى ولم يتعرض لها بشر , بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف مكرمة الجانب معززة الخاطر , فعد المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها منه له ) ( المصدر السابق ص 39-40 ) .
ويخبرنا المؤرخ عن عهد الأمان للأرثوذكس قائلاً : ( ولما ثبت قدم العرب في مصر , شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين واستمالة قلوبهم إليه واكتساب ثقتهم به وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه وإجابة طلباتهم , وأول شيء فعله من هذا القبيل استدعاء بنيامين البطريرك الذي كان مختفيًا من أمام هرقل ملك الروم ... ولما حضر وذهب لمقابلتة ليشكره على هذا الصنيع أكرمه وأظهر له الولاء وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته وعزل عمرو البطريرك الرومي الذي كان قد أقامه هرقل و ردّ بنيامينَ إلى مركزه الأصلي معززًا مكرمًا ) ( المصدر السابق ص 54- 55 ) .
ومن المهم للغاية أن يفهم أهلنا من نصارى مصر اليوم أن عمرو بن العاص لم يكن في حاجة إلى هذا التطمين ولا في حاجة لإكتساب ثقة أحد , لأنه ما فعل ذلك إلا بعد أن انتصر وأحكم قبضته على البلاد تمامًا , وإنما ذلك راجع إلى طبيعة العقيدة التي يؤمن بها عمرو وجنده , فهو داعية إلى الله وإن ارتدى زي الجند , وهو داعية إلى الإسلام وإن أمسك في يده اليسرى درعًا وفي اليمنى سيفًا !
وكان عمرو بن العاص قادرًا على أن يقضي على المسيحية في مصر قضاء نهائيًا , لولا أنه لو فعل ذلك لأقام عليه أمير المؤمنين الحد لما في دين المسلمين من تقديس لحرمة الدماء !
فعمرو بن العاص لم يكن في حاجة إلى نصارى مصر , وإن كان في حاجة إليهم فقد كان مستطيعًا أن يأمرهم بتلبية حاجته بالحال التي كان يأمرهم بها إخوانهم في الدين من الرومان والبيزنطيين .
ونقول في هدوء : ألم يكن قادرًا على التعامل معهم كعبيد محاربين ؟! ألم يكن قادرًا على التعامل مع الروم عليهم ؟! ألم يكن قادرًا على تقديم الروم في الحكم ومُـصالحـتهم ؟! ألم يكن يعرف أن نصارى الروم أكثر خبرة ومعرفة بأصول الحكم والحرب والقتال من نصارى مصر فيستخدمهم في الخلاص من نصارى مصر والإبقاء على ما كانت عليه الأحوال من قبل ؟!
ولنقرأ السطور التالية للمؤرخ يعقوب نخلة : ( كان عدد الروم في مصر ينوف عن ثلاثمائة ألف نفس , فهاجر أغلبهم , ولم يبق منهم إلا من كانت له علاقات ومصالح لا تسمح له بالخروج منها والإبتعاد عنها , وإنتهز القبط خروج الروم فرصة مناسبة فوضعوا يدهم على كثير من كنائسهم وأديرتهم وملحقاتها , بدعوى أنها كانت في الأصل مِـلكًا لهم وأن الروم نزعوها من يدهم قوة وإقتدارًا بسبب ما كان بينهم من الشقاق , ومن ذلك الحين عاش الروم والأقباط بالــحـُـسـنـى , وانتهت من بينهم النزاعات والمخاصمات , التي كانت تــُــفـضِـي إلى قتل الألوف المؤلفة لزوال أسبابها ) ( المصدر السابق ص 55-56 ) .
الأقباط في عهد الدولة الأموية !
يستطرد المؤرخ روفيلة في الحديث عن أخبار الأقباط إبان الفتن التي واجهها الصحابة رضوان الله عليهم وحتى الدولة الأموية فيقول : ( بينما كان الخلل مستوليًا والفشل سائدًا في كل أنحاء المملكة العربية بسبب هذه المنازعات , كان الأقباط في مصر ملازمين الهدوء والسكينة والحيادة , فلم يخطر على بالهم قط شق عصا الطاعة أو التخلص من غير العرب ... وفي الواقع أن القبط كانوا هم المسلطين في بلادهم وبيدهم كل شيء وعاشوا أمنين على أنفسهم ومالهم , ولم يكن للعرب سلطة عليهم إلا في تحصيل الخرج وجمع الجزية التي قاموا بدفعها عن طيب خاطر ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 62, 64 ) .
ثم ينتقل المؤرخ روفيلة إلى ولاية عبد العزيز بن مروان , إذ تحدث عن الزيادة في الجزية في عهده , وذلك لما رأى زيادة نفوذ النصارى في البلاد وإستيلائهم على ثرواتها كما يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وإذ كان القبط في ذلك الحين هم أهل البلاد وذوي الثروة والإقتدار على الأعمال وعليهم مدار العمران بخلاف العرب الذين كانوا معظمهم من الجند المحافظين على الأمن وسلامة البلد ) ( المصدر السابق ص 65 ) .
وبعد أن حكم عبد العزيز بن مروان البلاد أكثر من عشرين سنة وعمل خلال هذه الفترة على تحديث البلاد والنهوض بها – كما شهد المؤرخ روفيلة – فصارت أحسن ما يكون , تولى مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان , وهو أول من قام بتغيير اللغة الرسمية للبلاد من القبطية إلى العربية , فمصر صارت دولة إسلامية يحكمها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , واللذان ضمنا حرية العبادة والتدين للنصارى في مصر , كما أن عبد الله بن عبد الملك أراد أن يكون للمسلمين مشاركة في نهضة دولتهم , فكان من الطبيعي أن يقدم الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان على هذا الفعل , وهذا الأمر ليس بمستغرب , فعلى هذا جرت الأحداث في العديد من بلاد العالم كلما إستتب الأمر لأمة جديدة تريد أن تصنع حضارتها ومستقبلها , وفي هذا يقول المؤرخ روفيلة : ( وحينئذ كثر العرب في مصر وإنبثوا في أنحائها واتخذوا الزراعة كسبًا ومعاشًا لهم وعاشروا الأقباط وإختلطوا بهم فكان لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ) ( المصدر السابق ص 68 ) .
ثم ينتقل المؤرخ روفيلة للحديث عن زيادة الجزية وفرضها على الرهبان في عهد عبد الله بن عبد الملك , فينقل لنا رأي بعض المؤرخين المسيحيين أن تلك الزيادة كان سببها دخول الأقباط في الإسلام تخلصًا من دفع الجزية , فلما خشي الوالي من قلة الإيراد بسبب ذلك , زاد من مقدار الجزية وفرضها على الرهبان ببرية شيهات في الوجه البحري !
وهذا بالطبع من سخف العقول وعدم الإلمام بالحقائق التاريخية عن الدولة الأموية أنذاك , والتي كانت في أبهى عصورها , إذ لم تكن في حاجة لهذه الجزية أصلاً لإنعاش خزائنها , إلا أنها شريعة الله في أرضه ويجب تحكيمها , وقد أتحفنا المؤرخ روفيلة بشجاعته وإقدامه بذكر السبب الحقيقي وراء هذه الزيادة , فيقول في هامش كتابه ص 69 تعليقًا على هذا الرأي , ما ننقله بنصه وصورته :
وهكذا يتحفنا المؤرخ روفيلة بذكر حقيقة أثبتتها الأيام والأحداث , خاصة في عصرنا هذا , وهى أن بعض الرهبان والقساوسة يكنون في أنفسهم حقدًا على الإسلام وأهله , ويشجعون رعاياهم على إنتهاز أية فرصة لزعزعة أمن البلاد واستقراره .
وقد ذكر المؤرخ روفيلة تداعيات هذه الأحداث , والمنازعات التي حدثت بين متولي الخراج وبين النصارى , ونحن نعلم يقينًا أن السبب في ذلك هم هؤلاء القساوسة والرهبان وإثارتهم للفتنة بين أهل البلد الواحد , وقد ذكر العلامة المقريزي هذه المنازعات وتداعياتها . ( انظر القول الإبريزي ص 45 , والخطط 3/273 -274 ) .
ويتابع المؤرخ روفيلة سرد الأحداث ما بين سقيم الأخبار وصحيحها فيقول : ( وفي أثناء ذلك , توفي الخليفة هشام بن عبد الملك فأسف الجميع لموته ولا سيما النصارى , لأنه لم يميز في أحكامه بين مسلم ونصراني ويهودي , وكان يشدد على الولاة في جميع الولايات التابعة له بإنتهاج منهج العدل في أحكامهم وإنصاف المظلوم بصرف النظر عن الدين والجنسية ) ( المصدر السابق ص 74 ).
ورغم أن المنازعات التي حدثت بين الولاة والنصارى كانت في معظمها في عهد هشام بن عبد الملك إلا أن المؤرخ روفيلة شهد شهادة صريحة بعدل هشام بن عبد الملك مع اليهود والنصارى قبل المسلمين , وأعود فأقول : أن هذا هو الأصل في تعامل الحكام المسلمين مع رعاياهم من المسلمين وغيرهم من أهل ذمتهم , وأن ما يحدث من منازعات ومشاحنات إنما هو من فعل ثلة تريد الفتنة بين أهل البلد الواحد .
لقد كان مروان بن محمد بن الحكم , أخر خلفاء بني أمية , وفي أخر عهده ضعفت البلاد وعمت الفوضي , وقد ذكر المؤرخون المسلمون النبذ المطول حول هذه الأحداث والتي كانت فيها نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية .
وكما تحدثنا من قبل , أن الأقباط تنعموا بالحرية والعدل في ظل أمرين ثابتين , وهما : إقامة الشريعة الإسلامية التي ضمنت حقوقهم وما لهم وما عليهم , وعدم الخروج على الدولة التي أقرت هذه الشريعة نهجًا لها وإلتزامهم بالعهد المبرم بينها وبينهم , وهكذا صار الأمر في نهاية الدولة الأموية ما بين نقيض هذين الأمرين , ما بين ولاة زاد ظلمهم على رعاياهم بوجه عام , وما بين تأمر الأقباط على زعزعة أمن البلاد واستقراره , والحق أن الأقباط كانوا في معظم الأحيان هم من جلبوا الظلم لأنفسهم بسبب أفعالهم وتأمرهم على الإسلام وأهله .
فعلى سبيل المثال , المؤرخ روفيلة ذكر في طي حديثه عن الأقباط في ظل الدولة الأموية , أن عبد الملك بن موسى بن نصير إضطهد الأقباط أنذاك , في حين أن العلامة المقريزي , والذي إعتمد على تاريخه أغلب الباحثين من النصارى – بل وحتى المؤرخ روفيلة - , ذكر أن الأقباط خالفوا العهد بمدينة رشيد , مما دعا مروان بن محمد وقف هذا الخروج القبطي على الدولة , وكان من أثار ذلك ما فعله عبد الملك بن موسى بن نصير أخر أمير ولي مصر في العهد الأموي .
فمن السبب فيما حدث من بلايا وإضطهادات على حد وصف المؤرخ روفيلة وغيره ؟!
هذا , وقد نقلنا شهادة المؤرخ روفيلة أن العديد من المؤرخين المسيحيين ذكروا تأمر القبط والروم على البلاد .
بل لقد ذكرت السيدة العنصرية المسيحية الإنجليزية " ا . ل بتشر " في كتابها " تاريخ الأمة القبطية وكنيستها " ( 4/ 2 ) أن هناك العديد من المؤرخين المسيحيين أقروا حقيقة أن الإضطهادات التي يزعمها الأقباط عبر التاريخ من زيادة الجزية وهدم الكنائس ... إلخ ، هم الذين جلبوها لأنفسهم بسبب أفعالهم - أي الأقباط - !
وفي خاتمة حديث المؤرخ روفيلة عن الأقباط في العهد الأموي , ذكر كلامًا قيمًا يثبت أن الإسلام وصلحاء المسلمين لا يرضون بأي ظلم يقع على أهلهم من الأقباط , فيقول المؤرخ روفيلة : ( ومن حسن الحظ أن علاقاتهم الشخصية – أي الأقباط - مع أفراد المسلمين المتوطنين بينهم لم تكن غير مرضية وأنَّا لم نر في التاريخ ما يدل على وجود تعصبات دينية , بل ربما وجد بين المسلمين من أنصفهم وذب عنهم , وقد إحتال الروم على أحد خلفاء هذه الدولة وحصلوا على أمر منه بإعادة ما كان لهم من الكنائس بمصر قصدًا في نزع إحدى الكنائس من يد الأقباط بدعوى أنها كانت في الأصل ملكًا لهم فأدى ما حصل بين الروم والقبط من النزاع إلى رفع المسألة لقاضي المسلمين للفصل فيها فلم يراع في الحكم غير الحق , وأثبت أن الكنيسة ملكًا للقبط حقًا , وحكم بعدم جواز نزعها من يدهم وإعطائها لمن لا حق لهم فيها ) ( المصدر السابق ص 81 ) .
وهكذا كان الرأي العام المسلم مع الحق والعدل , إنصافًا للمظلوم من أهل ذمتهم !
ونختم حال الأقباط في العصر الأموي بهذه السطور من كتاب " قصة الحضارة " لول ديورانت , يقول : ( لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير. ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديدو الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يُقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5 % من الدخل السنوي. ( الزكاة ليست على الدخل السنوي، بل على رأس المال النامي وما يدره من دخل ) . وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمعتون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم ) ( قصة الحضارة ج 13 ص130- 131 ) .
الأقباط في عهد الدولة العباسية !
افتتح المؤرخ روفيلة هذا الفصل بخروج الأقباط على والي مصر برشيد وسخا وغيرهما لزعمه إستبداد الوالي أنذاك , فيقول روفيلة : ( لم تكن نوايا الخلفاء العباسيين لأقباط مصر غير حسنة , إلا أن بعد البلاد عن مركز الخلافة وعدم بقاء الولاة في مناصبهم جعلهم يستبدون ويعملون في الناس كيفما شاؤوا ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 81 -82 ) .
وهذا الزعم فيه مبالغة , فلقد علمنا على مر بحثنا , حال النصارى مع عمال الخراج , وخروجهم الدائم على نظام الدولة , ونحن لا ندعي العصمة للحكام وعمالهم , بل قد يحدث من قبلهم بعض الإستبداد والظلم بالفعل , لكن هذا لا يعطي الحق لأي جماعة لتخريب البلاد وزعزعة أمنه واستقراره دون سلوك الطرق الشرعية في التفاوض والتباحث .
ونتساءل : إذا كان الإستبداد الذي زعمه المؤرخ روفيلة قد طال الناس على مختلف أديانهم , فلماذا خرج الأقباط النصارى بالذات على الوالي وعمال خراجه ؟! لماذا تميل نفوس الأقباط دائمًا إلى الحلول العدائية بدلاً من الحلول السلمية ؟! لقد أثبت التاريخ – وقد بينًا أمثلة ذلك – أن الحكام والخلفاء على مر العصور كانوا يستجيبون لشكاوى الأقباط ومطالبهم , فلماذا يصدر هذا الخروج العدائي كلما ظهرت مشكلة عارضة ؟!
النصارى لا يفهمون أن عندهم ما يستطيعون أن يدندنوا حوله فيحصلوا على جميع حقوقهم كاملة , ألا وهو ضمان الإسلام لأهل ذمته , لكنهم وبسبب سوء نيتهم سرعان ما يخرجون على نظام دولتهم , فيحدث لهم ما لا تحمد عقباه !
يذكر المؤرخ روفيلة أثار هذا الخروج فيقول : ( فتمرد قبط رشيد وسخا وغيرهما , وجاهروا بالعصيان , فأرسل لهم الوالي عساكر فقاموا عليهم وقاتلوهم وهزموهم وردوهم على أعقابهم خاسرين ) ( المصدر السابق ص 82 ) .
ولما علم الوالي أنذاك وهو " يزيد بن حاتم بن قبيصه " بهزيمة عسكره , إشتد غضبًا على النصارى فأراد هدم كنائسهم إنتقامًا منهم , وكان له ما أراد , ونسأل كل عاقل من السبب في كل هذا ؟!
ثم يستطرد المؤرخ روفيلة فيقول : ( ولما تولى أخر مكانه – أي مكان الوالي – أذن لهم في بنائها وكان ذلك بمساعدة القاضي ومشورته بحجة أن بناءها أمن عمار البلاد , فشكروه على ذلك ) ( المصدر السابق ص 82 ) .
وفي هذا يقول العلامة المقريزي : ( ثم لما مات ميخائيل قدم اليعاقبة في سنة ست وأربعين ومائة انبامسنا، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة وصاروا في جمع، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرا، فأتاهم القبط ليلا وقتلوا عدة من المسلمين وهزموا باقيهم، فاشتد البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف، وهدمت الكنائس المحدثة بمصر، فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودة بمصر، وهدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لسليمان بن علي أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار، فأبى، فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، واحتجا بأن بناءها من عمارة البلاد، وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين ) ( المواعظ والإعتبار 3/257 , والقول الإبريزي ص 98-99 ) .
وقد أطال المؤرخ روفيلة في ذكر المحاسن الرفيعة التي فعلها الوالي " موسى بن عيسى " مع النصارى في مصر أنذاك . ( تاريخ الأمة القبطية 82-83 ) .
ثم انتقل المؤرخ روفيلة إلى خلافة هارون الرشيد وخروج أهل الحوف على والي مصر بسبب الحجة البالية " زيادة الخراج " على أهل البلاد , ثم تولي الخلافة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد سنة 198هـ-813م .
يقول المؤرخ روفيلة : ( فبعث – أي المأمون – لأهل البلاد رسائل يدعوهم فيها إلى الطاعة لأنه كان مشتغلاً بمحاربة الروم وأرسل هذه الرسائل عن يد مندوبين مخصصون فلم يجد ذلك نفعًا , ولم انتهى من حرب الروم وقصد العود إلى بغداد دار الخلافة , عرج على مصر فوجدها في حالة يرثى لها , والناس في ضنك شديد , فسخط على الوالي , وكان إسمه عيسى بن منصور , وقال له : " إن لم يكن هذا الحدث العظيم إلا من سوء فعلك وفعل عمالك , حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتم الخبر عني حتى تفاقم الأمر وإشتد البلاء وإضطربت البلاد " . وأمر بتجريده من ملابسه فنزعت عنه وأخذه بثياب البياض على مرأى الجميع جزاءً له وعبرة لغيره ) ( المصدر السابق ص87 ) .
بالطبع لا نعلم مصدر هذه الرواية , وما هو المرجع الذي نقل عنه المؤرخ روفيلة هذه القصة , إلا أننا سنتماشى مع المؤرخ روفيلة فيما نقل وزعم , إذ يظهر من القصة عدل المأمون ومعاقبته للولاة لمخالفتهم الأمر .
ويتحفنا المؤرخ روفيلة بما فعله المأمون بأقباط مصر أنذاك فيقول : ( ... ويقول مؤرخو المسلمين أن المأمون لما كان في مصر ورأى إنتفاض أقباط الوجه البحري حكم بقتل رجالهم وبيع نسائهم وسبي أطفالهم . أما مؤرخو القبط فيقولون أنه لما وصل المأمون إلى مصر , ذهب إليه البطريرك وهو حينئذ الأب يوساب فقابله الخليفة بما يليق وأكرمه وكلمه في أمر مخالفة أقباط الوجه البحري وطلب إليه أن ينصحهم ويحذرهم بأن يكتب لهم منشورًا يدعوهم فيه إلى الطاعة حقنًا لدمائهم , ووعده أن ينظر بنفسه في راحتهم وفيما يشكون منه , فلبى البطريرك طلبه , وكتب المنشور إمتثالاً لأمره وأرسله , فأطاع الناس وسلموا إلا أهل البشمور , فلم يقبلوا النصيحة وأبوا إلا المقاومة بدون أن يتبصروا ) ( المصدر السابق ص 87 – 88 ) .
وهكذا يخبرنا المؤرخ روفيلة أن الأقباط هم الذين خالفوا العهد وخرجوا على نظام الدولة , وأن حجة " زيادة الخراج " ما هى إلا ذريعة لزعزعة البلاد , ولو كان الأمر كذلك لخرج أهل مصر من المسلمين والنصارى واليهود على الوالي , إحتجاجًا على هذه الزيادة , لكن هذا لم يحدث , بل خرج الأقباط من النصارى فقط , وهذا أكبر دليل على خروجهم على الوالي بلا أي سبب , حتى ولو زعموا ما زعموا !
ولا عجب في رد فعل الخليفة المأمون , فرغم أن النصارى انتهزوا فرصة إنشغال المأمون بمحاربة الروم وتعمدوا زعزعة أمن البلاد واستقراره , إلا أنه محكوم بدين عظيم أمره ألا يغدر برعيته , بل أمره بسلوك الطرق الشرعية والسلمية في التفاوض والتباحث مصداقًا لقوله تعالى : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنفال61 . فعليه الإستماع إلى شكاوى رعاياه من أهل ذمة الأسلام , ونصرتهم على عدوهم وإن كان مسلمًا !
ويستطرد المؤرخ روفيلة فيقول : ( ... ولو قبلوا النصيحة لنالوا من لدنه – أي المأمون – خيرًا ونعمة وراحة , ولكنهم جلبوا على أنفسهم مصيبة لم يبرأوا منها , ومن ثم ذل القبط ولم يتجرأوا على المقاومة ) ( المصدر السابق ص 88 ) .
ثم يزيد المؤرخ روفيلة في إتحافنا فيقول : ( ولما خمدت نار الفتنة وهدأت الأحوال شرع المأمون في تطيب خواطر الناس , فصار يطوف البلاد , وأخذ يتفقد أحوال الرعيات بنفسه .... ) ( المصدر السابق ص 88 ) .
ثم يخبرنا المؤرخ روفيلة بقصة العجوز القبطية ماريا , التي ضيفت المأمون ومن معه , وأهدتهم أكياسًا من الذهب , فلما سألها المأمون من أين لها هذا ؟ فقالت : من عدلك يا أمير المؤمنين ! ( المصدر السابق ص 89-90 ) .
إلى متى سيتعامى النصارى عن هذا التاريخ ؟!
إلى متى سيظلون ينظرون إلى التاريخ بعين التحزب والحقد والكراهية ؟!
ألم يأن لهم أن يعلموا أنه لولا الإسلام بسماحة تعاليمه وتشريعه لصاروا إلى شر حال ؟!
لقد تطرق المؤرخ روفيلة فيما بعد إلى ذكر أحداث الوالي " ابن المدبر " وفرضه الضرائب على الرهبان ورجال الدين , وأوقاف الكنائس والأديرة , فاستقر رأي البطريرك ورجال الأمة المسيحية على إرسال رجلين منهم إلى بغداد , ليبسطا الأمر للخليفة العباسي " المعتز بالله " , ويطلبا منه أن يصدر أمره إلى عامله " ابن المدبر " بأن يرفع المظالم , واختاروا لهذه المهمة اثنين من غير موظفي الديوان , أحدهما يدعى ساويرس والأخر إبراهيم , وزودهما البطريرك بكتاب للخليفة , فأجاب الخليفة لهما سؤلهما , وسلمهما أمرًا بمعافاة الرهبان وخدام الدين من الجزية وتخفيفها عن باقي الناس , ولما نزل " المعتز " عن الخلافة وخلفه " المهدي " , عادت الأحوال فساءت في مصر , فرجع إبراهيم وحصل من الخليفة على أمر يؤيد الأمر الأول . ( تاريخ الأمة القبطية ص 93-95 , وانظر خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 116 – 117 ) .
وقد أشرنا مسبقًا لهذه القصة وبيان ما فيها من محاسن الخلفاء العباسيين في تعاملهم مع أهل ذمة الإسلام , وإعتبارهم جزء لا يتجزأ من المجتمع المسلم , لهم ما لنا وعليهم ما علينا , فهؤلاء النصارى المذكورين أعلاه لما خرجوا إلى الخليفة ليعرضوا له شكواهم ومطالبهم لم يخشوا بطش سلطان أو إي إضطهاد مزعوم , لأنهم يعلمون أن ما فعله معهم " ابن المدبر " مسألة عارضة ليست هى الأصل في دولتهم , ولأنهم يعلمون أن العدل أساس دولة الإسلام , وأن الخليفة لن يرضى بما فعله عامله .
لقد أشاد المستشرق " ترتون " في كتابه الشهير" الإسلام وأهل الذمة " بتسامح المسلمين إبان العهد العباسي مع أهل ذمتهم , وذكر تكريم الولاة والخلفاء العباسيين لهم , فيقول : ( والكُتَّاب المسلمون كريمون في تقدير فضائل هؤلاء ممن على غير ملتهم , حتى ليسمون " حنين بن إسحاق " برأس أطباء عصره , " وهبة الله بن تلميذ " بأبي قراط عصره , وجالينوس دهره , وكان " بختيشوع بن جبرائيل " ينعم بعطف الخليفة المتوكل حتى إنه كاد يضاهيه في ملابسه , وفي حسن الحال , وكثرة المال , وكمال المروءة , ومباراته في الطيب والجواري والعبيد , ولما مرض " سلمويه " بعث المعتصم ابنه لزيارته , ولما مات أمر بأن تحضر جنازته إلى القصر , وأن يصلى عليه بالشموع والبخور جريًا على عادة النصارى , وامتنع المعتصم يوم مماته عن أكل الطعام , أما " يوحنا بن ماسويه " فقد خدم الخلفاء العباسيين منذ الرشيد إلى المتوكل , وكان لا يغيب قط عن طعامهم , فكانوا لا يتناولون شيئًا من أطعمتهم إلا بحضرته , ومن ثم لم يكن هناك أدنى كلفة بينه وبين الخليفة المتوكل , فكان الخليفة يداعبه في رفق ولين ) ( الإسلام وأهل الذمة ص 145- 147 بتصرف ) .
الأقباط في عهد الدولة الطولونية !
لقد ذكرنا طرفًا من أعمال السلطان أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية مع أهل الذمة بمصر ودمشق , فهو صاحب النهضة التي ارتقت بالشعب المصري في شتى مناحي الحياة , وقد ذكر المؤرخ روفيلة في موسوعته التاريخية " تاريخ الأمة القبطية " محاسن هذه الدولة وسلطانها رحمه الله .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وكذلك أحمد بن طولون وإن يكن عامل البطريرك بما لا يليق إلا أنه أراح المصريين كثيرًا , فرفع ما كان باقيًا عليهم من الضرائب الغير إعتيادية التي فرضها " إبن المدبر " وخفض الضرائب عن الأطيان , فإنتفع الأقباط من ذلك كثيرًا , وإتسعت في أيامه الزراعة وإستقامت الأحوال , وشيدت المباني العالية والقصور الشاهقة , وهو الذي أسس بمصر الجهة المعروفة الأن بطولون ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101 ) .
وعن الخلاف الذي حدث بين السلطان إبن طولون والبطريرك , فلم يكن السلطان سببه , بل سببه التنازع بين رجال الكنيسة على السلطة الدينية , فيقول المؤرخون النصارى : أن أحد الأساقفة بعد أن عزله البطريرك , أراد الكيد من البطريرك لعزله إياه , فعلم حاجة السلطان للأموال من أجل النفقات على البلاد والفتوحات , فأخبر السلطان أن البطريرك يكنز المال وهو في غير حاجة إلا للطعام واللبس , فلما إستدعى السلطان إبن طولون البطريرك , وطلب منه أن يدفع له عن طيب خاطر فينال من ذلك الإحسان من الخليفة والسلطان , إمتنع البطريرك عن ذلك لعدم إمتلاكه للمال , فلم يقبل منه السلطان عذرًا , وحمله بدفع عشرين ألف دينار , فلما رفض البطريرك , أودعه السلطان في السجن , فتشفع له كاتبان مقربان عند السلطان وهما يوحنا وإبراهيم ولدا موسى كاتب سر السلطان إبن طولون , فلم يقبل , ثم تشفع يوحنا وإبنه مقاريوس وهم كتبة أحد وزراء السلطان , فقبل السلطان وأخرج البطريرك من السجن على أن يتكفل البطريرك بدفع المبلغ المطلوب منه على أقساط , حتى إضطر لبيع بعض أوقاف الكنائس , ولما مات السلطان وتولى ابنه خماوريه عفا عن البطريرك وأسقط عنه الأقساط , فشكر أقباط النصارى له ذلك . ( تاريخ الأمة القبطية ص 98-99 ) .
والناظر إلى القصة سالفة الذكر , لا يجد فيها حدث جماعي , بل حدث فردي وقع فيه السلطان فريسة التنازع بين رجال الكنيسة على السلطة الدينية , أما حال أقباط النصارى العام , فلقد كان السلطان كما ذكر المؤرخ روفيلة لا يفرق بين الأقباط المسلمين والأقباط النصارى فكلهم يمثلون المجتمع المصري , بل حسبك أنه رغم غضبه من البطريرك , إلا أنه سمح للكُتَّاب النصارى بالتشفع عنده , بل أبقاهم على مناصبهم , ولم يسيء للأقباط النصارى بوجه عام أثناء ذلك .
وقد ذكرنا مسبقًا قصة بناء مسجد أحمد بن طولون , وبيَّنا ما في القصة من إفتراءات وحقائق , فلقد زعمت لجنة التاريخ القبطي أن السلطان أحمد بن طولون إستجاب للرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس لبناء المسجد , وهَمَّ بفعل ذلك لولا تدخل مهندس نصراني يدعى " ابن كاتب الفرغاني " الذي إقترح على السلطان تصميمًا لن يحتاج فيه إلى أية أعمدة من الكنائس , وراحت لجنة التاريخ القبطي تزعم أنه لولا هذا المهندس النصراني لهدمت صوامع وكنائس !
وقد ذكرنا حينها أن السلطان أحمد بن طولون إستبعد الرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس فور إقتراحه , وذلك قبل إقتراح ذلك المهندس لهذا التصميم , إعتمادًا على ما ذكره العلامة المقريزي , وأن المهندس النصراني أرسل إلى السلطان بعد ذلك يعرض عليه المساعدة لا من أجل إنقاذ الكنائس بل لأنه أراد المشاركة في التصميم والتنفيذ .
وقد يعترض النصارى على نقلنا من كتاب العلامة المقريزي لأنه مسلم , لذا ننقل من كتاب المؤرخ روفيلة ما يثبت أن السلطان أحمد بن طولون كره الرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس , وظل حائرًا ماذا يفعل من أجل أن يبني مسجدًا جامعًا ؟!
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وقيل أنه لما عزم على بنائه – أي المسجد – أراد أن يجعله أعظم ما بني من الجوامع في مصر إلى ذلك الحين بأن يقيمه على ثلثمائة عمود من الرخام , فقيل له أنه مثل هذا لا يمكن الحصول عليه إلا إذا هدمت كنائس ومعابد النصارى , فعدل عن رأيه حتى لا يحرموا من معابدهم , ولكن بقي مترددًا في هذا الأمر . وكان يوجد مهندس نصراني يسمى إبن كاتب الفرغاني عارف بفن الهندسة وصنعة البناء , كان ألقاه أحمد بن طولون في السجن لتهمة بعد أن بنى له مقياسًا للنيل وبقي فيه مدة حتى نسيه بالمرة , فلما بلغ المهندس ما كان من رغبة إبن طولون وتردده , كتب إليه عريضة وهو في السجن بما يفيد إقتداره على إتمام مشروعه وإستعداده لتنفيذ مرغوبه بغير إحتياج لأكثر من عمودين يجعلهما في القبلة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101-102 ) .
لقد زعم بعض المؤرخين النصارى أن السلطان أحمد بن طولون عرض على سعيد بن كاتب الفرغاني أن يعتنق الإسلام , فلما أبى أمر السلطان أحمد بن طولون بقتله !
وهذا مما ذكروه بلا أي دليل يثبت صحة دعواهم , بل حسبك أنهم إختلفوا فيما بينهم في ذكر هذا الخبر , فزعم بعضهم أنه ما لبث ابن كاتب الفرغاني من الإنتهاء من بناء المسجد حتى قتله السلطان ابن طولون , وزعم بعضهم أن السلطان أجرى عليه الرزق طيلة عمره ولم يقتله , وذكر بعضهم أن السلطان أراد أن يعتنق ابن كاتب الفرغاني الإسلام فأبى الأخير فأمر السلطان بقتله فقطعت رأسه عن جسده , وزعم أخرون أن السلطان ألقاه من فوق قصره لما أبى إعتناق الإسلام !
وعلى هذا جرى أمر المؤرخين النصارى بين تناقض وتضارب في ذكر هذا الخبر , ونحن لا نقول هذا من باب الدفاع عن أحمد بن طولون , بل نقول ذلك من أجل الحق والحق وحده , أنه لم يعرف التاريخ قط حالة واحدة قُتل فيها مسيحي أو يهودي من أجل رفضه إعتناق الإسلام , بل لم يعرف التاريخ قط أن المسلمين أكرهوا المسيحيين أو اليهود على إعتناق الإسلام , كيف لا والله تبارك وتعالى هو الذي قال في محكم آياته : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99 . وقال سبحانه : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256 .
ونذكر بما ذكرته لجنة التاريخ القبطي : ( ... فتعهد المهندس العمل إلى أن أتمه في رمضان سنة 265هجرية ( سنة 879 م ) . وعند الإحتفال بافتتاحه وزعت الصدقات على الفقراء وأرسلت الهدايا إلى مستحقيها فنال المهندس عشرة آلاف دينار , وعدا ذلك أمر أحمد بن طولون بأن يجري عليه الرزق مدة حياته ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
وهكذا تمتع الأقباط النصارى بالعديد من المزايا في عهد الدولة الطولونية , وحتى بعد وفاة مؤسسها إبن طولون , فلقد أكرم ابنه خماوريه أقباط النصارى .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وكان على أبروشية طحا أسقف يسمى الأب باخوم نال بعقله وتدبيره وحسن سيره وسيرته ثقة خمارويه الذي كان لا يرفض له طلبًا , فنال القبط بواسطة هذا الأسقف راحة تامة ومزايا جمة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة أيضًا : ( ... وبالجملة فإن المصريين عمومًا لم يروا من بعد عمرو بن العاص أيامًا أحسن من أيام بن طولون والدولتين الفاطمية والأيوبية ) ( المصدر السابق ص 108 ) .
الأقباط في عهد الدولة الإخشيدية !
لم يدم حكم الدولة الإخشيدية سوى أربع وثلاثين سنة ( 323هـ - 358هـ ) , وسميت بهذا الإسم نسبة إلى مؤسسها " محمد الإخشيد " الذي وصفه المؤرخ روفيلة بأنه كان شجاعًا وحازمًا ويتصف بحسن التدبير .
ورغم قصر حكم هذه الدولة , إلا أن بعض المؤرخين النصارى يزعمون أن " محمد الإخشيد " كان يقتطع من أموال الأقباط ليتقوى بها على الحروب , وحسبنا في رد هذه الشبهة , ما ذكره المؤرخ روفيلة , إذ يقول : ( بعض مؤرخي المسيحيين ينسب إليه الجور – أي إلى محمد الإخشيد – لأنه كان يجمع منهم أموالاً يتساعد بها على الحروب , لكن أحد المؤرخين المعاصرين له قال إنه كان يرد إليهم ما يأخذه منهم ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 103 ) .
الأقباط في عهد الدولة الفاطمية !
لقد تمتع الأقباط النصارى في عهد الدولة الفاطمية بمزايا جمة , وإمتيازات خاصة , أوهمت معظمهم أنهم صاورا ملاك البلاد والمتحكمين فيها , فراحوا يؤذون المسلمين ويتطاولون عليهم , مما دعا الحاكم بأمر الله أن يفعل بهم ما فعل , وقد بسطنا القول في ذلك .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وتقلد كثير من الأقباط الوظائف العالية في دواوين الحكومة , لا سيما المتعلقة بالأعمال الحسابية , فإنهم إستقلوا بها إستقلالاً تامًا , وإمتازوا على غيرهم بوضع قواعد دقيقة وروابط مضبوطة لها فلم يتمكن غيرهم من تسييرها مثلهم , وكانوا قد تمكنوا من معرفة اللغة العربية , وألفوا فيها مؤلفات واسعة تشهد لهم بغزارة المادة وطول الباع ونقلوا إليها أيضًا جملة مؤلفات من اللغتين اليونانية والقبطية ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 142 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة أيضًا : ( ومن محاسن أيام الدولة الفاطمية التي تذكر بالنسبة للأقباط أن معظم الصنائع وأجلها كانت بيدهم , فكان الصياغ والجوهريون والنجارون والحاكة والصباغون والبناؤون والحدادون والمهندسون والنقاشون والشماعون وعاملوا الورق والزجاج على إختلاف أنواعه وألوانه ) ( المصدر السابق ص 142-143 ) .
هذا , وقد تطرق المؤرخ روفيلة إلى عصر الحاكم بأمر الله , فذكر إختلال عقله وفرضه على شعبه أحكامًا غريبة , حتى قال روفيلة : ( ... وتتبع العلماء وأماثل أهل دولته وأكابر الناس على إختلاف أجناسهم وقتل منهم عددًا عظيمًا بغير سبب أو علة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 116 ) .
وقد بسطنا القول في ذكر أيامه وما كان فيها من أحداث , فإنه – لعنه الله – حارب الإسلام والمسلمين , ولم يفرق في أذيته بين مسلم ونصراني .
يقول المؤرخ روفيله : ( ... وفي أواخر أيام الحاكم بأمر الله ظهر بمصر متمذهب يدعى دراز , ولفق له دينًا جديدًا , وهو المعروف الأن بمذهب الدروز , فإرتاح الحاكم لهذه الديانة الجديدة وإفتتن بها جدًا حتى أنه كان يصعد كل صباح إلى جبل المقطم منفردًا ويدعي بأنه ينادي ربه كما كان يفعل موسى , ومن ثم صار لا يعبأ بمسلم ولا نصراني ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 128 ) .
إلا أننا نذكر أن ما فعله الحاكم بالأقباط النصارى كان سببه تعديهم وتطاولهم وأذيتهم للمسلمين , وذلك لما إرتفع نجمهم في الحكم , إلا أن الحاكم في نهاية المطاف عفا عنهم وأعاد بناء الكنائس لهم , أما أقباط المسلمين فظلوا يعانون من شره حتى أراح الله الناس منه .
الأقباط في عهد الدولة الأيوبية !
رحم الله صلاح الدين وأبيه وعمه وأخيه العادل , وكل من سار على نهجهم من ملوك الدولة الأيوبية , حماة الدين , وناصري الإسلام , جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
يظن الناظر في تاريخ الدولة الأيوبية الأبية وجهادها ضد الصليبيين الغزاة , أن هذه المعارك قد أحدثت تأثيرًا سلبيًا بين هذه الدولة الإسلامية وبين أهل ذمتها من الأقباط النصارى , نظرًا للمعارك الطاحنة بين المسلمين والصليبيين أنذاك .
لكن الإسلام العظيم هذب النفوس , وربى الأمة , وأمرها بالعدل والقسط مع أهل ذمتها , مصداقًا لقول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8 .
يذكر المؤرخ روفيلة أعظم شهادة تاريخية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عظمة هذا الدين , وسماحته التي ليس لها مثيل : ( ... عاش القبط في راحة كل باقي أيام الدولة الأيوبية في ظل ملوكها الذين عرفوا أهميتهم في خدمة الحكومة والوطن فقدروهم حق قدرهم رغمًا عما كان بين هؤلاء الملوك والإفرنج من الحروب الدينية المتواصلة , ولم يصب الأقباط في أيامهم ضرر بل ربما نالهم الضرر من ذات الإفرنج الذين إدعوا أن القصد من حروبهم الصليبية حماية الدين المسيحي والمسيحيين ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 178 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة فيما يفوق الوصف والتصور : ( ... ومما يذكر بالثناء على الخلفاء الفاطميين وملوك الدولة الأيوبية , أنهم أطلقوا للأقباط عنان الحرية للمدافعة عن دينهم فألف بعضهم مؤلفات واسعة جديرة بالإعتبار أثبتوا فيها بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة صحة معتقدهم وديانتهم ) ( المصدر السابق ص 189 ) .
أين أنتم يا دعاة الحرية الفكرية ؟!
أين أنتم يا دعاة حقوق الإنسان ؟!
أين أنتم يا دعاة الديمقراطية ؟!
يا نصارى مصر : هل وجدتم هذه الحرية إلا في ظل حكم الإسلام ؟!
الأقباط في عهد دولة المماليك البحرية وأوائل الدولة العثمانية !
تطرق المؤرخ روفيلة في هذا الباب إلى أحداث القرن الرابع عشر التي أشرنا إليها وبيَّنا حقائقها وإفتراءاتها , وأطال الحديث أيضًا حول النزاع الفكري بين الكاثوليك والأرثوذكس على السلطة الدينية المسيحية في مصر أنذاك , وعن حكم المحكمة الشرعية بأن تكون السلطة الدينية بيد الأرثوذكس , وقد ذكر أيضًا سيرة أبرز أقباط النصارى في أواخر دولة المماليك وهما : المعلم إبراهيم الجوهري والمعلم جرجس الجوهري .
والمؤرخ روفيلة وكذا عموم النصارى يفتخرون بهذين القبطيين , بل تنقل لجنة التاريخ القبطي في مؤلفها " خلاصة تاريخ المسيحية في مصر " قول " الجبرتي" عن المعلم إبراهيم الجوهري : ( إنه أدرك بمصر من العظمة ونفوذ الكلمة وبعد الصيت والشهرة ما لم يسبق مثله لغيره من أبناء جنسه , وكان من دهاقين العالم ودهاتهم , لا يغرب عن ذهنه شيء من الأمور ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 138 ) .
أما المعلم جرجس الجوهري , فهو من رحب بنابليون بونابرت , عندما جاء بحملته الغاشمة على مصر شرفها الله , وقد ذكر المؤرخ روفيلة ذلك .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... كلف المعلم جرجس الجوهري رئيس المباشرين أن يعد هذا البيت لنزول نابليون فيه ففرشه وجهزه , ولما دخل القاهرة أقام به ومن ذاك الحين عرف نابليون المعلم جرجس الجوهري وأهداه جبة مزركشة بالقصب ليلبسها في أيام التشريفات ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 282 ) .
وقد كان الأخوان إبراهيم وجرجس , من كبار رجال الدولة , وكانا عظيمي النفوذ , وكان للمعلم جرجس هذا دورًا كبيرًا في دخول نابليون وحملته الغاشمة إلى مصر , وكذلك أيضًا المعلم يعقوب حنا , وقد تأكد ذلك بعد نشر فرنسا لمراسلات نابليون في مجلدات يخص كلٌ منها مرحلة من حياته وذلك عام 2005م , ففي المجلد الثاني والذي يقع في 1270 صفحة , وعنوانه "حملة مصر ومقدماتها" ، تكشف الوثائق عن وجود مراسلات بين المعلم يعقوب قائد كتيبة الأقباط وجرجس الجوهري أحد أعيان أقباط مصر بخصوص مخططات واسعة المدى للفصل بين أقباط مصر ومسلميها ! (الرسالة رقم 3872 بتاريخ 7 ديسمبر 1798 م ) .
فمن منا لا يعرف المعلم يعقوب حنا القبطي، وملطي، وجرجس الجوهري، وأنطوان الملقب بأبي طاقية، وبرتيلمي الملقب بفرط الرومان، ونصر الله النصراني ترجمان قائمقام بلياز، وميخائيل الصباغ, وغيرهم من زعماء النصارى الذين كانوا يعملون مع المحتل الفرنسي لمصر .
لقد استغل نصارى مصر احتلال نابليون لمصر فتقربوا إليه واستعان بهم ليكونوا عيون جيشه حيث كانوا يرشدونهم على بيوت أمراء المماليك ورجال المقاومة الذين كانوا يجاهدون الفرنسيس ، وكل ذلك ثابت لدى الجبرتي في " عجائب الآثار " ونقولا الترك في " أخبار الفرنساوية وما وقع من أحداث في الديار المصرية " .
إذ يؤكد المؤرخان المعاصران للحملة الفرنسية أن نابليون استقدم معه جماعة من نصارى الشام الكاثوليك كتراجمة بالإضافة إلى استعانته بنصارى مصر (الأرثوذكس) , وقد ذكر الجبرتي أن المعلم يعقوب حنا القبطي كان يجمع المال من الأهالي لمصلحة الفرنسيس .
بل إن المعلم يعقوب وصل به الأمر أن كون فرقة من الأقباط لمعاونة المحتل إذ يقول الجبرتي : ( ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة , جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية ... وصيرهم ساري عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد ، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر ، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير ) ( الجبرتي : عجائب الآثار 4/582 ) .
وكان زعيمهم " برتيلمي " الذي تلقبه العامة بفرط الرومان لشدة إحمرار وجهه , كان يشرف بنفسه على تعذيب المجاهدين وهو الذي قام بحرق المجاهد " سليمان الحلبي " قاتل كليبر ، وكان هذا البرتيلمي يسير في موكب وحاشية ويتعمد إهانة علماء المسلمين ويضيق عليهم في الطرقات محتميًا في أسياده الفرنسيس !
فها هم النصارى منذ أكثر من قرنين يسعون "للإستقواء" بالأجنبي ورسم المخططات الواسعة المدى مع أعداء الوطن بهدف الفصل بين أقباط مصر , بالرغم من أن المماليك – وبشهادة المؤرخين النصارى وكما يقول محررو المجلد في حاشية نفس الوثيقة- كانوا لا يَأتمِنون على إدارة الأملاك الخاصة والعامة سوى الأقباط ، ولذلك كان مباشرو الضرائب ـ بصفة عامة ـ منهم .
وبعد دخول نابليون مصر , لم يميز في بطشه بين مسلم ونصراني , بل زاد من الضرائب على النصارى , كما هو واضح مثلاً من الرسالة 2753 بتاريخ 3 أغسطس 1798م الموجهة إلى المعلم جرجس الجوهري حيث يطلب منه : ( أن يكلف كلاً من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس بتحصيل المبلغ الذي طلبتُه من الأمة القبطية . وألاحظ مع الأسف أنه مازال يتبقى 50 ألف تالاري متأخرات , وأريد أن يتم إيداعها في ظرف خمسة أيام في خزينة الجيش ) .
وفي الرسالة رقم 3294 بتاريخ 21 سبتمبر 1798م إلى بوسييلج ، مدير الشئون الإدارية والمالية للجيش يُذَكره بمتأخرات من تجار الحرير الدمشقي قدرها 8,300 تالاري، وتجار القهوة (32,000) والأقباط (1,000) وزوجات المماليك الهاربين (24,000). ويطلب الإسراع في الدفع . (التولاري عملة فضية من جنوا، كان استعمالها منتشرا آنذاك، وكانت تساوي 5,28 فرنك فرنسي) .
لم يتورع نابليون عن وصف الأقباط بما لا يليق في إحدى الرسائل . فقد اشتكى حاكم الشرقية الجنرال رينييه من تصرفات مباشر الضرائب النصراني في الإقليم ، المدعو فلتاؤوس ، فرد عليه نابليون (رسالة 3130 بتاريخ 10 سبتمبر 1798) قائلاً : ( أبلغتُ المباشرَ العام على الضرائب (الجوهري) بأنك لم تكن راضيًا على الإطلاق عن (المباشرين) الأقباط . إنهم أناس لئام في البلاد ، ولكن ينبغي مراعاتهم لأنهم الوحيدون الذين في يدهم مجمل الإدارة للبلاد . لقد حصُلتُ منهم على سجلات هائلة حول قيمة الضرائب المفروضة ) .
نعم ... إنهم أناس لئام !
والغريب في الأمر , أن النصارى زعموا في رسائلهم لنابليون أنهم مضطهدون , وأنهم يسعون لنيل حريتهم عن طريق دخول القوات الفرنسية وقضائها على المسلمين , في حين أنهم كانوا متسلطين على أعظم المناصب الحكومية في البلاد أنذاك , وهذا يذكرنا بدعوى نصارى مصر اليوم أنهم مضطهدون ( !! ) . وكل ذلك من أجل إعادة ما يعرف بالحملات الصليبية الغاشمة للقضاء على الإسلام والمسلمين !
والقوم – لا أعانهم الله – لم يتعلموا الدرس , إذ لا ينصرهم من يستنجدون به أبدًا , بل هم أول من يذوقون أصناف الذل والقهر على يد من ظنوا أنهم ناصروهم , لعلم كل من إستنجدوا بهم أنهم - أي الأقباط - لئام لا يستحقون المساعدة , فهم طعنوا المسلمين رغم إكرامهم لهم , فمن كان هذا حاله فلا عهد معه ولا كلمة !
وهذا الذي فعله كبار أقباط النصارى أنذاك يعد خيانة عظمى للدولة التي أحسنت إليهم وقلدتهم أشرف المناصب وأعلى الدرجات وأعطتهم الحرية الكاملة , ولقد سطر التاريخ إقدام نابليون - الذي رحب به أقباط النصارى - على قذف الأزهر الشريف بالمدافع من أعلى جبل المقطم , فهم أرادوا الإسلام بقذف إحدى مناراته الرئيسية في العالم الإسلامي !
الأقباط في عهد الدولة العثمانية وما بعدها !
كانت مصر تحكم بالشريعة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي عام 20 هـ , وكان أول قاض بمصر هو " قيس بن أبي العاص السهمي " في خلافة أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه , حتى وصل إلى سدة الحكم " محمد علي باشا " فحمل النطفة الأولى للعلمانية , إذ أعلن إستقلاله عن الدولة العثمانية .
لقد تجرأ " محمد علي " إبان صداقته لفرنسا التي لم يدم على إحتلالها للبلاد أنذاك وخروجها منها سنوات قليلة , على إستبعاد الشريعة الإسلامية وإصدار القوانين الوضعية تشبهًا بأوروبا , وذلك فور إعلان إستقلاله عن الدولة العثمانية .
فإن كان هناك ما دعا أوروبا إلى إستبعاد الحكم الكنسي في بلادها إذ كان عقبة أمام تقدمها في شتى نواحي الحياة , فلم يكن هناك داعيًا لـ " محمد علي " إلى أن يحيف عن الشريعة الإسلامية السمحاء سوى إتباعه لسادته من الفرنسيين والإنجليز , فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع , حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟! قال: فمن ؟! " ( متفق عليه ) .
فأجدادنا من المسلمين – ومعهم أقباط النصارى – تنعموا في ظل الحكم الإسلامي بشريعته السمحاء , فعلَّمنا الأمم كلها في ظله معاني الإيمان والعدل والعلم , ورُسم لنا على خريطة التقدم والريادة أكبر المواقع , فكنا أعظم قبلة للعلم والتعلم , يؤمها أهل الأمم على مختلف أديانهم , وذلك في وقت كانت هذه الأمم تموج في بحور الضلال والإضطهاد والتخلف , ولا سيما أوروبا أثناء حكم الكنيسة لها !
وبعد إحتلال الإنجليز لمصر سنة 1882م أكملوا مشروعهم التخريبي في إستبعاد الشريعة الإسلامية من الحكم , لعلمهم التام أنه إذا ما تم إستبعاد هذه الشريعة عن حكم البلاد , فسيتم لهم مرادهم من غزو البلاد وتدميرها فكريًا وعقائديًا وأخلاقيًا , وقد كان لهم ذلك - بفضل الأسرة العلوية - فلم يبق من الشريعة في الدستور إلا إسمها !
وهكذا صار الحكم في مصر أنذاك – بل وحتى اليوم – بين يدي القوانين الوضعية والإمتيازات الأجنبية التي مكنت الأجانب من إقامة محاكم خاصة لهم للفصل بين رعاياها وبين أهل البلاد !
ولم تسر على البلاد أنذاك أحكام أو قوانين الملل الخاصة بالدولة العثمانية , وهذا " القانون الهمايوني " الخاص ببناء الكنائس والذي يتبجح نصارى اليوم ويزعمون أنه لا يزال يُعمل به في البلاد حتى اليوم , لم يطبق أصلاً في مصر , لإستقلال مصر عن الدولة العثمانية أنذاك , ناهيك عن ما بعد سقوطها , كما أن هذا القانون كان قانونًا إصلاحيًا لسد الثغرات في وجه التدخل الإستعماري الغربي الحاقد على ثروات المسلمين .
وعلى هذا فكل دعاوى الإضطهاد – المزعومة – والتي يطلقها النصارى منذ ذلك العصر وحتى اليوم , ليس لها علاقة بحكم الإسلام للبلاد , بل لها علاقة بسياسة الحكم الوضعي للبلاد .
ولئن كان النصارى يزعمون - ظلمًا وعدوانًا وإفتراءًا – أنهم نالوا الحرية بعد حكم " محمد علي " وإستبعاد الشريعة الإسلامية كدستور للدولة , وذلك رغم الحرية والعدل التي ذكرنا بعضًا منها في ظل حكم الشريعة الإسلامية , عُلم من ذلك قطعًا أن دعواهم ما خرجت من أفواههم إلا حقدًا وحسدًا على عظمة هذا الدين , والسعي في القضاء عليه !
ورغم زعم المشرعين أن المادة الثانية من الدستور المصري الحالي تنص على أن الإسلام هو مصدر التشريع الرئيسي للبلاد , إلا أنه لا يخفى على من له مسحة من عقل أن الشريعة معطلة في شتى نواحي الحياة , فيما عدا بعض مسائل الأحوال الشخصية .
ونتساءل : ما سر هذه الضجة حول الأقليات والحكم بالشريعة الإسلامية ؟!
الأقليات المسيحية في مصر والحكم الإسلامي !
بعد إنتهائنا من النقل عن المؤرخ الأرثوذكسي " يعقوب نخلة روفيلة " في كتابه " تاريخ الأمة القبطية " عند سقوط الدولة العثمانية , وبداية الحكم الوضعي بمصر على يد الأسرة العلوية , نعرض شهادات عدة على لسان رؤوس الأقباط النصارى في مصر تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عظمة الشريعة الإسلامية وسماحتها وإهتمامها البالغ بحقوق أهل ذمتها , وأن الأحكام الوضعية أضاعت حقوق الأقباط النصارى التي ضمنتها لهم الشريعة الإسلامية , تلك الشريعة التي عاشوا في ظلها أسعد أيامهم على مر تاريخهم !
يقول المؤرخ الغربي " آدم ميتز " : ( ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم , والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية , وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضًا , وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون , ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج , بل كانت تشمل – إلى جانب ذلك – مسائل الميراث , وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به , وعلى أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية , ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا , ولذلك ألف " الجاثلين ثيمونيوس " حوالي عام 200هـ - 800م كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية – لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجؤون إلى المحاكم غير المسيحية , بدعوى فقدان قوانين المسيحية .... وفي عام 120هـ - 738م , ولى قضاء مصر " خير بن نعيم " , فكان يقضي في المسجد بين المسلمين ثم يجلس على باب المسجد بعد العصر على المعارج فيقضي بين المسيحيين .. ثم خصص القضاة للمسيحيين يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاء ليحكموا بينهم , حتى جاء القاضي " محمد بن مسروق " الذي ولي قضاء مصر عام 177هـ , فكان أول من أدخل المسيحيين في المسجد ليحكم بينهم ) ( الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري , آدم ميتز 1/85-87 ) .
وهكذا كان النصارى في مصر في ظل حكم الشريعة الإسلامية , يُقبلون عليها ويحتكمون إليها في قضاياهم ومنازعاتهم إختيارًا منهم , لما فيها – أي الشريعة الإسلامية - من شمول وتفصيل وحكمة ورحمة وعدل وسماحة !
المسيحيون في مصر والحكم بشرع الله !
تحت هذا العنوان الذي صدَّرت به مجلة " الدعوة " عددها الصادر بتاريخ شهر ربيع الأول سنة 1397هـ الموافق لشهر فبراير من عام 1977م ( تفاصيل التحقيق بالمجلة ص 12- 15 , تحقيق للأستاذ / محمود عبد الباري ) . وجهت المجلة بعض الأسئلة إلى بعض أهل الفكر الكبار من ممثلي الطوائف المسيحية في مصر , وهم : الكاردينال " إسطفانوس " بطريرك الأقباط الكاثوليك سابقًا , والأنبا " غريغوريوس " أسقف البحث العلمي والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس سابقًا , والقس " برسوم شحاته " وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر سابقًا , لذا رأيت أن أنقل من أجوبتهم على أسئلة " الدعوة " بعض الشهادات الناصعة في حق شريعتنا الإسلامية النقية الصافية .
شهادة الكاردينال " إسطفانوس " بطريرك الأقباط الكاثوليك سابقًا !
يقول الكاردينال " إسطفانوس " فيما له علاقة ببحثنا من خلال تحقيق مجلة " الدعوة " سالف الذكر : ( إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان , وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء , وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحدًا أو يلقى بغضًا من أحد , ولقد وجدت الديانات الأخرى والمسيحية بالذات , في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائمًا بصورته الصادقة , ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر من حيث الأمان والإطمئنان في دينها ومالها , وعرضها وحياتها ) .
شهادة الأنبا " غريغوريوس " أسقف البحث العلمي
والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة الأرثوذكسية المصرية !
يقول الأنبا غريغوريوس : ( لقد لقيت الأقليات غير المسلمة والمسيحيون بالذات في ظل الحكم الإسلامي الذي كانت تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام وأمن في دينها ومالها وعرضها ) .
شهادة القس " برسوم شحاته " وكيل الطائفة الإنجيلية سابقًا !
يقول القس " برسوم شحاته " : ( في كل عهد أو حكم إسلامي إلتزم المسلمون فيه بمباديء الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين والمسيحيين على وجه الخصوص بكل أسباب الحرية والأمن والسلام , وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق , بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيليين على الدين , كلما سطعت شمس الحريات الدينية , والتقى المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة الخلاقة ) .
شهادة رئيس الكنيسة القبطية المصرية
وبابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا " شنودة " !
يقول الأنبا " شنودة " بطريرك الكرازة المرقسية الأرثوذكسية : ( إن الأقباط في ظل حكم الشريعة , يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا , ولقد كانوا كذلك في الماضي , حينما كان حكم الشريعة هو السائد .. نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " . إن مصر تجلب القوانين من الخارج الآن , وتطبقها علينا , ونحن لسنا عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة , فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام ؟! ) ( صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ 6 مارس سنة 1985م ) .
September 2008 - 10:58 AM
وقفة مع شهادات القساوسة !
إن المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة , ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام , لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله ورسالات السماء والجزاء في الآخرة , كما يقوم على تثبيت القيم الإيمانية والمثل الأخلاقية التي دعا إليها الأنبياء جميعًا , ثم هو يحترم المسيح وأمه عليهما السلام , وكذا الإنجيل المنزل على المسيح عليه السلام , فكيف يكون هذا الحكم بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر على حين لا يزعجه حكم وضعي أو علماني يعرف زورًا بـ " المدني " يحتقر جميع الأديان , بل لا يسمح بوجودها ؟! هذا فضلاً عن تشجيع هذه الوضعيات والعلمانيات " المدنيات " على الرذيلة والفواحش واللواطية !
من الخير للمسيحي المخلص في طلب الفضيلة أن يشجع الحكم الإسلامي , فيأخذه على أنه نظام قانون ككل الأنظمة والقوانين , وأود أن أصحح هنا خطأ يقع فيه كثيرون , وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية , فهذا خطأ مؤكد , إذ الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحيين والمسيحية في أوطاننا من تلك القوانين , لأصوله الدينية من ناحية , ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها من ناحية أخرى .
ولا غرو إن وجدنا أيضًا بعض القانونيين المسيحيين يدرسون الفقه الإسلامي ويدافعون عنه , ويعتبرونه تراثًا تشريعيًا للأمة كلها , مسلمين وغير مسلمين , خاصة وأن المسيحية لم تأتي بأنظمة وقوانين للحكم لها ما لقوانين الإسلام من تفصيل وشمول في شتى نواحي الحياة كما ذكر " الأنبا شنودة " في شهادته التي ذكرناها , بل وُجد في قوانين الإسلام حقوقًا للأقليات الغير مسلمة , ضمنت لهم حرية التدين والعيش والكسب والتعلم , وكذلك ضمنت لهم حق الدفاع عنهم ضد أي ظلم داخلي أو خارجي , بجانب أن الإسلام لم يكلفهم في أحوالهم الشخصية والإجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم , وإن كان قد حرمه الإسلام , وقد خلت الشريعة الإسلامية بينهم وبين محاكمهم الخاصة بهم للفصل بينهم إن أرادوا ذلك ورغبوا فيه .
بل أعجب ما في الأمر , أن الله تبارك وتعالى جعل حقوق أهل ذمة الإسلام من الدين , يأخذها المسلمون متساوية مع بقية فرائض وأومر الدين , فهو محاسب على تنفيذها - أي حقوق أهل الذمة - , فيعلمون أن عين الله الساهرة ترقبهم في أهل ذمتهم كما ترقبهم في صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم , فلا رهبة لحاكم تدعو للتخلص منها , بل التخلص من هذه الحقوق وإهمالها يمثل تخلصًا وإهمالاً في أحد الأوامر الربانية التي عليها مدار الدين كله , فالدين المعاملة كما ذكر أهل العلم .
ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي , خاصة - وكما ذكرنا - أن المسيحية ليس لها إتجاه معين في نظام الحكم .
الآب متَّى المسكين يعلنها مدوية
" ليس للمسيحية إتجاه معين في نظام الحكم " !
يقول الآب متَّى المسكين : ( ليس للمسيحية إتجاه معين في نظام الحكم , ولكنها تقول دائمًا بالحرية والحكم الأفضل : " جئت ليكون لهم حياة ويكون لهم أفضل " . فأفضل نظام للحكم , وأفضل نظام للحياة , هو ما تبغيه المسيحية وتعمل على تحقيقه ... فالمسيحية لا تزكي حكمًا على حكم , ولكن تزكي دائمًا الإنتقال من نظام حكم إلى نظام حكم أفضل , وتعمل باجتهاد لهذا الإنتقال ) ( مقالات بين السياسة والدين : متَّى المسكين ص 57 ) .
والإسلام - بلا شك - يهييء حكمًا أفضل مما عاشه الإنسان تحت عهود الوضعية والعلمانية والشيوعية والرأسمالية والإشتراكية ... إلخ , بل لا نقول هذا من باب الإدعاء , بل هذا ما أثبته الواقع , وشهد به التاريخ , ولعل ما دلت عليه الأرقام في " إستطلاع الرأي " الذي نظمه المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية بمصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر , والذي شارك في الإجابة على أسئلته مسلمون ومسيحيون , أبلغ شاهد على دعوانا , فلقد كانت الأرقام ذات الدلالة الحاكمة : مع التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية , وزادت نسبة المسيحيين عن المسلمين في هذا الإستطلاع ( 32% إلى 31% ) , ومع تطبيق أحكام الشريعة على الجميع , بصرف النظر عن إختلاف الدين , زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين ( 71% إلى 69% ) !! ( صحيفة الأهرام , بتاريخ 20 مارس سنة 1985م ) .
ولمزيد بيان حول حقوق الأقليات الغير مسلمة في المجتمع الإسلامي وأفضلية الحكم الإسلامي لهذه الأقليات , إطلع على هذا الرابط :
http://www.aljame3.n...?showtopic=5096
إستدراك : شهادة مفحمة !
يقول المدعو " عزت أندرواس " صاحب الموسوعة " العنصرية " الكاذبة الخاطئة " موسوعة تاريخ أقباط مصر " بالنص والحرف : (( قال المؤرخين العرب انه خرج 70000 راهب قبطي من وادى النطرون0بيد كل منهم عكازا عراه الأقدام وثياب ممزقه0مهللين لعمرو بن العاص0وتلقوه بالمطرانه مرجعه من الاسكندريه يطلبون أمانه لهم علي أنفسهم واديرتهم0ولكن الامير عمر طوسن قال : " إن عدد 70000 راهب الذى ذكره المقريزي فى عبارته الانفه لاريب ان فيه مبالغه كبيره0فقد روى المعاصرون كما سبق ذكره أنه لم يوجد فى هذه المنطقه أكثر من 3500 راهب فى اوائل القرن السادس الميلادى " )) إهـ .
أولاً : دع عنك أنه لا يفرق بين الفاعل والمفعول !!
ثانيًا : لقد نسب المدعو " طوسن " القصة إلى العلامة " المقريزي " !! والقوم يريدون بذلك تضليل رعاياهم وإخبارهم بأن القصة من صنع المسلمين , وقد ذكر المدعو " عزت أندرواس " في تتمة كلامه بأن القصة خيالية حقدًا وبغضًا وحسدًا , لكن الله مظهر الحق ومذل منكره , إذ أن هذه القصة ذكرها المؤرخون المسيحيون أنفسهم نقلاً عن أسلافهم , وهذه شهادة واحد منهم , وهو الشماس " منسي القمص " وهو لا يقل في تعصبه وحقده على المسلمين عن أخيه في العنصرية " عزت أندرواس " !
تاريخ البطاركة في الكنيسة القبطية
38- البابا بنيامين الأول
( 623 - 662 م)المدينة الأصلية له : برشوط - البحيرة
الاسم قبل البطريركية : بنيامين
الدير المتخرج منه : دير قبريوس (قنوبوس )
تاريخ التقدمة : 9 طوبه 339 للشهداء - 4 يناير 623 للميلاد
تاريخ النياحة : 8 طوبه 378 للشهداء - 3 يناير 663 للميلاد
مدة الإقامة على الكرسي : 39 سنة
مدة خلو الكرسي : 6 أيام
محل إقامة البطريرك : دير متراس بالأسكندرية
محل الدفن : المرقسية بالإسكندرية
الملوك المعاصرون : هيرقل الأول - الثاني - عمر - عثمان - على - حسن بن على - معاوية
- من بلدة برشوط محافظة البحيرة من أبوين تقيين غنيين.
- ترهب بدير القديس قنوبوس بجوار الإسكندرية وكان ينمو في كل فضيلة حتى بلغ الكمال المسيحي.
- قدمه أبوه الروحانى إلى البابا أندرونيقوس فرسمه البابا قساً وسلمه أمور الكنيسة.
- ولما أختير للبطريركية حلت عليه شدائد كثيرة وكان ملاك الرب قد كشف له عما سيلحق الكنيسة من شدائد وأمره بالهرب هو وأساقفته ففعل ذلك...
ومضى هو إلى برية القديس مقاريوس ثم إلى الصعيد.
- وبعد خروجه بقليل وصل الإسكندرية المقوقس الخلقيدونى متقلداً زمام الولاية والبطريركية من قبل هرقل الملك واضطهد المؤمنين كثيراً.
- وبعد قليل وصل عمرو بن العاص وغزا البلاد واستولى على مدينة الإسكندرية... ولما علم باختفاء البابا بنيامين طلب حضوره معطياً إياه العهد والأمان والسلام فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضى ثلاثة عشرة سنة هارباً.
- وكان هذا الأب كثير الاجتهاد في رد غير المؤمنين إلى الإيمان وتنيَّح بسلام بعد أن أقام في الرياسة سبعاً وثلاثين سنة.
عيد نياحته في الثامن من شهر طوبه.
شهادة المؤرخة القبطية
د/ إيريس حبيب المصري
المؤرخة القبطية د/ إيريس حبيب المصري صاحبة الموسوعة الشهيرة " قصة الكنيسة المصرية " , والتي أشرف على إخراجها أكابر رجال الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في القرن الماضي , تحدثت - في موسوعتها - عن أحوال الأقباط النصارى في عصور الدولة الإسلامية بمصر شرفها الله , نستعرض بعضًا مما جاء في هذه الموسوعة , مما له علاقة ببحثنا .
تقول د/ إيريس عن الفتح الإسلامي لبلاد الشام في موسوعتها 2/238 :
إن هذه الشهادة جاءت لتثبت حادثة ينكرها اليوم العديد من النصارى , الذين حملوا راية الحقد والتعصب على كل ما هو إسلامي , لا من أجل شيء سوى أن الإسلام أعطى للنصارى الحق في تأدية شعائرهم الدينية ومباشرة أعمالهم الدنيوية !
لكننا نقول لهم : لماذا لا تقرأوا تاريخكم مع الإسلام والمسلمين ؟!
إن إعراض النصارى عن هذه الأبحاث الموثقة من أجل التحزب الديني الصليبي , لن ينفعهم شيئًا , وإلا صارت هذه الكتب والأبحاث حجة عليهم ومعينة لنا على التمسك بديننا الذي ما أشرقت الشمس يومًا على دين أرحم منه !
وعن الفتح الإسلامي لمصر أشارت المؤرخة إيريس إلى أن عودة البابا بنيامين إنما جاء على أثر إنتصار المسلمين وفتحهم لمصر , وتخليص الأقباط من بطش البيزنطيين الكاثوليك ( 2/245 ) .
ثم تستطرد المؤرخة إيريس حبيب في ذكر محاسن البابا بنيامين وتلميذه أغاثون في ظل السنوات الأولى للدولة الإسلامية بمصر , فتقول ( 2/246 ) :
هذا , وقد مر بنا على وجه التفصيل , حياة الأقباط وأحوالهم في ظل الدولة الإسلامية , إلا أننا سنشير إلى بعض ما ذكرته المؤرخة إيريس حبيب .
إيريس حبيب تضرب لنا الأمثلة !
تذكر الباحثة د / إيريس حبيب في مؤلفها " قصة الكنيسة القبطية " أن عبد العزيز بن مروان أحد ولاة مصر إبان الدولة الأموية , توجه إلى الإسكندرية للإشراف على جمع الجزية , فلم يستقبله الأنبا يؤنس الثالث بابا الإسكندرية أنذاك , فسرعان ما انتهز الكاثوليك هذا الموقف , فادعوا للوالي أن البابا تعمد عدم الخروج لإستقباله , مما أغضب ذلك الوالي عبد العزيز بن مروان , إذ إعتبرها إهانة له , فأمر بإعتقال البابا حتى تؤدى غرامة مالية قدرها مئة ألف دينار ( !! ) .
لكن سرعان ما جرى حوار بين البابا والوالي , إستشعر الوالي من خلاله المكيدة التي خطط لها الكاثوليك , فأفرج عن البابا وأطلق له حرية التصرف في كنيسته الأرثوذكسية !
وتقول الباحثة إيريس حبيب في تعقيبها على الحادثة 2/260-262 :
وفي ص 264 من نفس المرجع السابق تذكر الباحثة إيريس حبيب مرض البابا يؤنس الثالث , فتقول ما نصه :
وفي ص 304 - 305 من المرجع المشار إليه , تذكر إيريس حبيب , أن أحد متولي الخراج واسمه " عبيد الله " قد إستبد في جمع الخراج من المسلمين والمسيحيين , إلا أنه قد إزداد إستبداده بالمسيحيين عن المسلمين - على حد زعم إيريس - .
ثم تقول الباحثة بالنص :
إنه الإسلام , الذي ربى النفوس على الحق والعدل والإنصاف !
يوحنا الدمشقي ... الطاعن في دين الله !
من منَّا لا يعرف يوحنا الدمشقي ؟!
إنه الرجل الذي كاد للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم حقدًا وبغضًا من عند نفسه , لا لشيء سوى أن الإٍسلام في زمانه كلما إختلطت تعاليمه الفذة بقلوب العباد إلا دخلوا فيه أفواجًا , لا لشيء سوى أن الإسلام قد نشر العلم والحضارة في شتى أنحاء المعمورة , وذلك في زمن كانت المسيحية فيه تموج في بحور ظلمات قساوسة الكنائس والمجامع !
تقول الأسطورة أن يوحنا الدمشقي توجه إلى نقد الدين الإسلامي عندما أمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بقطع يده – أي الدمشقي - , وقد ذكر العديد من أهل البحث من أتباع الديانتين أسطورية هذه القصة , إذ تنقل لنا الباحثة د/إيريس حبيب في مؤلفها محل الفحص والنقل " قصة الكنيسة القبطية " أن الخليفة الأموي ما حكم على الدمشقي إلا بالطرد من بلاطه فقط , وذلك من جراء مكيدة أوقعه فيها إمبراطور القسطنطينية , تقول الباحثة في مؤلفها " قصة الكنيسة القبطية " 2/327 :
وعلى هذا نقول : إن يوحنا الدمشقي ما دفعه إلى الطعن في دين الإسلام إلا الحرية الفكرية التي كفلها الأمويون للجميع أنذاك , أضف إلى ذلك , فشل الكنيسة في قيادة دفة العلم والحضارة – كعادتها – , بل كانت آنذاك تحارب العلم وتقف حائلاً بين العلماء ونظرياتهم , مما تسبب في إنتشار الجهل والظلم بين المسيحيين أينما حلوا ودبوا , لذلك وجد عوام المسيحيين في الحكم الإسلامي سبيل النجاة لممارسة طقوسهم الدينية على مختلف طوائفهم الدينية المسيحية , ووجد المفكرون والمثقفون من رجال الدين المسيحي سبيل الحرية للتعبير عن إعتقاداتهم وأفكارهم !
تقول الباحثة إيريس حبيب 2/ 339 :
لكن ذلك حدا بيوحنا الدمشقي إلى الطعن في الإسلام والمسلمين , ولا نجد لذلك مبررًا - كما ذكرنا - إلا الحقد ونكران الجميل لمن أحسنوا إليه وكفلوه بالرعاية والحماية , وما أشبه الليلة بالبارحة !
دفاع عن هارون الرشيد بأقلام مسيحية !
الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ورضي عنه , المفترى عليه من قبل أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا , تقول عنه الباحثة إيريس حبيب 2/ 368 :
فأين أنتم يا دعاة العلمانية الحمقاء مما ذكرته الباحثة المسيحية إيريس حبيب ؟!
صلاح الدين ... وإن رغمت أنوف !
السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي , بالرغم من السماحة التي عامل بها النصارى العرب أينما هلت بشائره وحلت جيوشه , إلا أن حفنة من الحاقدين الأقباط لا يزالون يهمزون ويلمزون حول سيرته وكفاحه المجيد , لتشويه صورته وسيرته , وما ذلك إلا لأنه قمع حملات أسلافهم الصليبيين الذين ذاق ويلات حروبهم الأقباط أنفسهم , فلتقرأوا ما تقوله الباحثة إيريس ( 3/ 120 ) :
نقول لهم أيضًا , هذه إيريس حبيب , الباحثة المسيحية التي لا غبار عليها , تذكر لكم من هو صلاح الدين ( 3 / 158- 170 ) :
رحم الله مفخرة الإسلام والمسلمين ... السلطان الناصر صلاح الدين !
أكتفي بهذا القدر من كتاب الباحثة إيريس حبيب : " قصة الكنيسة القبطية " .
الإضطهاد ... مفهومه ! .. أسبابه ! .. وأهدافه !
إن الناظر الخبير إلى دعوى " الإضطهاد " الصادرة عن نصارى المهجر ومن شايعهم من نصارى مصر , يجد فيها مبالغة متعمدة لنيل مكاسب ومصالح مخطط لها من خلال دعوى " الإضطهاد " , فالنصارى يعتبرون أي فعل من شأنه إقامة الدولة وتنظيم الأحوال المدنية والشخصية بين أفراده من باب الإضطهاد !! فلقد نسوا ما هو الإضطهاد الذي ذاقوا مرارته على مر العصور , وذلك بعد أن تنعموا بأكسية الحرية والعدل والسماحة , في ظل الإسلام ودولته !!
يذكر الكاتب " ول ديورانت " في كتابه الموسوعي ( قصة الحضارة ) في كتاب " قيصر والمسيح ص 380 " نموذجاً من الأهوال التي تعرض لها المسيحيون على يد الإمبراطور دقلديانوس في عام 303م: ( ويؤكد لنا يوسبيوس , ولعله يفعل ذلك في ثورة الغضب , أن الناس كانوا يُجلدون حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم , أو أن لحمهم كان يُقشر عن عظامهم بالأصداف وكان الملح أو الخل يُصب في جروحهم , ويُقطع لحمهم قطعة قطعة ويُرمى للحيوانات الواقفة في انتظارها , أو يشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع قطعة قطعة , ودُقت عصا حادة الأطراف في أصابع بعض الضحايا تحت أصابعهم , وسُملت أعين بعضهم , وعُلق بعضهم من يده أو قدمه , وصُب الرصاص المصهور في حلوق البعض الآخر , وقُطعت رؤوس بعضهم أو صُلبوا , أو ضُربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة , ومُزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسادهم إلى غصون أشجار ثُنيت ثنياً مؤقتاً , وقد وصل ذلك لنا كله عن المسيحيين أما الوثنيون فلم ينقلوا لنا شيء من هذا ) .
وتحدثنا لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة المصرية الأورثوذكسية عن الإضطهادات التي وقعت بعد دقلديانوس : ( ... وقام القيصر مكسيميانوس بعد ديوكلتيانوس , فأذاق المسيحيين كؤوسًا مرة من الإضطهاد , حيث قتل منهم ألوفًا كثيرة وخرب كنائسهم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 76 ) .
وأقدم من هذا الإضطهاد , إضطهاد نيرون سنة 64م : ( وكان سببه أن نيرون بعد أن أحرق رومه اتهم المسيحيين بهذا الحريق , فكانت السنوات الأربع الأخيرة من حكم هذا الطاغية سنين أخطار ومهالك في كل أنحاء المملكة الرومانية , حيث تفننوا في تعذيب المسيحيين , فوضعوا بعضهم في جلود حيوانات برية , وطرحوهم للكلاب فنهشتهم , وصلبوا بعضهم ثيابًا مطلية بالقار وجعلوهم مشاعل يُستضاء بها ليلاً , وكان نيرون نفسه يسير على ضوء هذه المشاعل البشرية ) ( المصدر السابق ص 95 ) .
ويقول الدكتور/نبيل لوقا بباوي عن الإضطهادات التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ضد نصارى مصر الأورثوذكس قبل الفتح الإسلامي للبلاد : ( في عام 631م حاول هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية أن يوحد العقيدة المسيحية مرة أخرى في جميع الولايات التابعة لإمبراطوريتة حسب المذهب الأريوسي ذي الطبيعتين للسيد المسيح , وأرسل حاكم جديد هو المقوقس الذي قام بإحراقهم أحياء - أي الأرثوذكس - وانتزاع أسنانهم , لدرجة أن شقيق الأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية قام الجنود الرومان بحرق أخيه متياس وأشعلوا فيه النار حيًا لرفضه الإعتراف بقرارات الإمبراطور هرقل الجديد , ويجمع جميع المؤرخين أن هذه الحماقات من جانب المقوقس جعلت الأقباط في مصر يكرهون حكم الدولة البيزنطية وكانوا يصلون أن ينجوا من شرور الجنود الرومان , ولشدة الإضطهاد من جنود الرومان هرب البطريرك الأنبا بنيامين وترك مدينة الإسكندرية وهرب للصعيد بعد أن رأى ما حدث لأخيه وللأقباط الأرثوذكس , وفي هذا الجو المأساوي الدموي حيث تذكر كتب التاريخ القبطي أن دماء الأقباط الأرثوذكس كانت تصل إلى ركب الخيول للجنود الرومان , وفي عام 639م أتى عمرو بن العاص بجيشه إلى مصر ومعه أربعة آلاف مقاتل , وفتح مصر في هذا الجو المأساوي الذي يعيش فيه الأقباط الأرثوذكس من ويلات القتل والعذاب على الجنود الرومان ) ( إنتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء ص 157-158 ) .
وبعد عصر قسطنطين بقليل من الزمن أعد المسيحيون وثيقة مزيفة بإسمه – أي قسطنطين – أجيز فيها العنف مع الكفار والملاحدة , فقضوا خلال القرن التالي , تحت هذا الشعار , على أتباع الديانات الأخرى وكل من إختلف مع الكنيسة الكاثوليكية .
Rationalist encyclopedia, p442
وبعد أن انتهى المسيحيون " الأغلبية " من الكفار والملاحدة " الأقلية " , توجهوا إلى اليهود تحت شعار ثأر دم المسيح , وفي ظل هذه الذريعة قُتل اليهود وسُلبت ممتلكاتهم , وأجبروا على الخروج من بيوتهم , وقد قال البابا الشهير " هائيلد براند " مشجعًا الحكام المسيحيين على قتل الملحدين والكفار واليهود : " الذي يمنع سيفه من قتل هؤلاء فهو ملعون " !
Herbert Muller: use of the past pp.86-87; Cambridge modern history (1907), vol.10, p. 152; Rationalist encyclopedia, p.270
ومن الحيل التي إستغلها المسيحيون لإضطهاد المسلمين واليهود والذين إختلفوا مع الكنيسة الكاثوليكية هو ما عُرف بـ " محاكم التفتيش " . فباسم هذه الحيلة قتل كثير من الأبرياء الذين يصعب حصرهم من الرجال والنساء والأطفال ذبحًا وشنقًا وحرقًا , الأمر الذي يُعد صفحة مظلمة في تاريخ الإنسانية جمعاء !
وقد إضطر الباحثون في ضوء أمثلة الظلم والإضطهاد والتعذيب هذه إلى أن يقولوا :
" تمتاز المسيحية بين الديانات الأخرى , بأنها قتلت منكريها وشددت عليهم من حيث الكم والكيف لدرجة أنه لا يمكن أن تتنافس معها أي ديانة أخرى " .
Rationalist encyclopedia, p441
وهناك ما يعرف بـ " الإضطهاد الفكري " , والذي يتمثل في حرب فكرية ثقافية , تحجر على الفكر والإطلاع والعلم , كالذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية ضد فلاسفتها ومفكريها وعلمائها في القرون الوسطى , إذ يعتبر عصر إزدهار المسيحية وإنتشارها ما يجمع المسيحيون كلهم تقريبًا على تسميته بـ " القرون المظلمة " . وما حادثة إضطهاد برونو وجاليليو منا ببعيد , وهم من أبرز علماء الفلك في القرون الوسطى , فالأول أحرق حيًا , والثاني لكبر سنه عُذب عذابًا شديدًا وأُكره على أن يبريء نفسه من أفكاره الكافرة, التي كان أبرزها أن الشمس تمثل مركزًا للنظام الشمسي بدلاً من الأرض , وهذا ما ثبت علميًا فيما بعد !
ولم يكن برونو وجاليليو ضحايا هذا العصر فحسب , بل إن باباوات الكنيسة وسعوا دائرة السخط على عامة الناس , فأحرقوا كل من أرادوا , زاعمين أنه " عراف " !
Rationalist encyclopedia, pp.622-623
وكذلك ما قامت به الكنيستان : الكاثوليكية والأرثوذكسية من خلال مجامع ومحاكمات كنسية لأكابر رجالها , كلما خرجوا على العالم المسيحي بأفكار وأراء تناقض الموروث العقدي لدى الكنيسة , فظهر مصطلح " الهراطقة " , ذلك المصطلح الذي كان كافيًا عند إطلاقه على أفراد أو جماعات , لحرقهم وحرق مؤلفاتهم وحذر نقلها أو تداولها , ومعاقبة كل من يمتلك هذا المؤلفات أو ينادي بما نادت به من أراء وأفكار بالقتل أو الحرق !
فمتى حدث مثل هذا للمسيحيين أو حتى عشره في ظل حكم الإسلام لهم ؟!
إن الذي نقلتُه – على سبيل المثال - عن لجنة التاريخ القبطي وكذا ول ديورانت ونبيل لوقا , هو بلا شك إبادة جماعية عرقية , يعبر عنها بلفظ يكافئها ويساويها , ألا وهو "الإضطهاد" , وما شهد به التاريخ المسيحي من إرهاب فكري , وقمع ثقافي , وحجر علمي , لا نجد حقيقة ما نصفه به إلا بـ " الإضطهاد الفكري " !
أما الذي نراه من خلال مزاعم النصارى بالإضطهاد الإسلامي لهم في ظل دولة الإسلام , فهو زعم سخيف يُعَبر عنه بطفلة مدللة لدى المتكفلين برعايتها , نسيت ما كانت تلاقيه من عقوق وشدة وإهانات نفسية وجسدية وسوء تربية على يد والدايها الأصليين , فكلما نصحها المتكفلون برعايتها ووجهوها لما فيه مصلتحها , وأرادوا منعها من الإستمرار في تطاولها وتعديها وبطشها عليهم , تزعم إضطهادهم لها !
فنحن إذا ما أخذنا من النصارى البالغين القادرين على حمل السلاح الجزية , جزاء حمايتهم وكفايتهم عدوا ذلك من الإضطهاد !! وهم الذين كانوا يدفعون الضرائب رغمًا عنهم , ودون أي إعفاء لكبير أو صغير من الجنسين , وليس من أجل الحماية والكفاية عنهم !!
وإذا ما قمنا بتغيير اللغة الرسمية للبلاد كما فعل عبد الله بن عبد الملك بن مروان في مصر شرفها الله , عدوا ذلك من باب الإضطهاد !! ولا ندري أي اضطهاد في ذلك , وقد صارت مصر دولة إسلامية يحكمها لسان عربي مبين , ممثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , واللذين ضمنا حرية العقيدة والتدين لأهل الذمة أنفسهم , كما أن هذا الأمر قد حدث مرارًا وتكرارًا كلما قامت حضارة جديدة أرادت الريادة لنفسها وإثبات ذاتها وصنع أمجادها , ولم يزعم أحد من جراء ذلك الفعل مزاعم " الإضطهاد " !
والناظر الخبير يعلم أن دعوى الإضطهاد في هذا الشأن يراد منها طمس مصادر التشريع الإسلامية . ونُذَكِر , أن عبد الله بن عبد الملك لم ينه عن التحدث باللغة العبرية أو القبطية أو اللاتينية أو اليونانية داخل الكنائس أو حين أداء الشعائر الدينية المسيحية أو اليهودية أو حتى فيما بين أهل الذمة , وما سمعنا عن مسيحي أو يهودي قُتل أو أُحرق بسبب تحدثه بغير العربية !
فعلى هذا تجري مزاعم الإضطهاد , إذ يراد منها تشويه صورة الإسلام , وسد منافذ تحكيمه مرة أخرى بصورة كاملة في شتى مناحي الحياة , والحصول على مكاسب لا يضمنها لهم دينهم ذاته بقدر ما يضمنها لهم تسامح دين الإسلام , ذلك التسامح الذي غر فئة من النصارى , تزداد أطماعهم يومًا بعد يوم , حتى يحصل لهم مرادهم النهائي , وهو تنصير المسلمين والقضاء على الإسلام العظيم , الذي لولاه لما صار لنصرانيتهم وجودًا !
إن " الإضطهاد " الذي يردده بعض النصارى في مصر والخارج , هو في حد ذاته إضطهاد للمسلمين , لأنهم يريدون من خلال هذه المزاعم الكاذبة أرهبة المسلمين داخل بلادهم , وزعزعة أمنهم وإستقرارهم , من خلال تشجيع المتعصبين على التدخل لوقف هذا الإضطهاد المزعوم !
والإسلام ما قهر النصارى - أو حتى اليهود - فكريًا أو حرمهم من عقيدتهم في يوم من الأيام , بل ترك الإسلام لهم المجال العقدي والفكري والثقافي , وكرم مثقافيهم وعلماءهم, وقلدهم أبرز المكانات العلمية والدينية , فيشهد التاريخ فرار كل باحث وطالب للعلم والثقافة من أوروبا إلى دولة الإسلام إبان الحكم الكنسي لأوروبا في القرون الوسطى المظلمة , فعج العالم الإسلامي بفلاسفة المسيحية ورجال الدين , كما ذكرنا سلفًا .
ورغم كل ما قيل , فنحن لا ندعي العصمة لأحد إلا لله ولرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , فأما الحكام وأولي الأمر , فهم ليسوا بمعصومين , ولكن من حكم فينا بشرع الله فهو العادل المقيم لحدود الله , ومن خالف الشرع أو أهمل في تطبيقه فهو الظالم لنفسه وأمته وشعبه على مختلف طوائفهم , فأي ظلم وقع على النصارى – على فرض وقوعه – بغير وجه حق على يد حاكم مسلم أو جماعة تزعم الإسلام وتحمل رايته , فالإسلام منهما بريء , ولا يُعد ذلك اضطهادًا بالمعنى المشهور عندهم – أي عند النصارى - , لكنها مشكلة عارضة خالف الحاكم أو المسلم تعاليم دينه ودستوره في معاملة غير المسلمين بل ومعاملة أهل ديانته من المسلمين , وقد نقلنا موقف الإسلام العظيم من أهل ذمته , وكيف أنه كفل لهم ما لم تكفله لهم أديانهم !
فهناك أمور ينبغي التنبه لها , فنحن لا نمنع أن يعمد أحد حكام المسلمين إلى "إضطهاد" فئة معينة في زمان من الأزمان , وهذا مخالف طبعـًا للإسلام وشريعته , ولا يتحمل الإسلام وزره ، لكنه قد يقع مع الأسف ، إذ لا نشهد لحكامنا - في أي عصر - بالعصمة مطلقــًا , فهذا من باب وضع النقط فوق الحروف !
وكما ذكرنا أيضًا , أنه لم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً , فقد كان الرأي العام – وأهل العلم معه – دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين , وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه , وقد ذكرنا أمثلة ذلك .
ونحن لا نقول أيضًا بعصمة الدولة الإسلامية كدولة حاكمة , بل أصابها القصور والضعف ونال رعاياها على مختلف انتماءاتهم الدينية بعض الجور والظلم في بعض الأزمنة والأحقاب , خاصة الأغلبية المسلمة , لكننا نقول بعصمة مصادر التشريع في الدولة الإسلامية , القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع والقياس ... إلخ , فأيَّما زمان إحتكم المسلمون إلى هذه المصادر , حصل الرخاء والعدل لهم ولأهل ذمتهم ولكل حي عاش في كنفهم , والتاريخ يشهد على ذلك في أوضح شهادة , والتراخي عن تحكيم هذه المصادر في حكم الدولة وإن حملت شعار الإسلام , هو سبب القصور والضعف الذي كان يصيبها في بعض أزمانها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة , فبمقدار التمسك بهذه المصادر والإحتكام إليها يحصل الخير والعدل والرقي والتقدم , وعلى نقيض ذلك ترى الخلل والفشل مستوليًا وفاشيًا في أرجاء الدولة , وهذه ليست شعارات نزعمها كغيرنا , بل كل كلمة نزعمها لها واقع عملي تاريخي يشهد لها ويؤيدها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة !
ولا ننسى أيضًا أن الأمر منوط بإلتزام النصارى بالعهد والميثاق المأخوذ عليهم , وعدم الخروج على حكم الإسلام , الذي ضمن لهم – بلا أدنى شك – حقهم في العيش والكسب وحرية العبادة , وعدم التطاول على المسلمين وأذيتهم والتعدي عليهم أو المكر بهم أوتسليم رقابهم لعدوهم !
فليس لهم المساس بشيء من قواعد الإسلام ومقدساته من قرآن أو سنة نبوية وعقيدة وعبادة وأخلاق ، ومسلّمات تاريخية ، وليس لهم شيء من السبّ والشتم والتهكم أو السخرية ، أو إثارة الفتنة الدينية ، أو الطعن بقيم الإسلام وتاريخه وحضارته ، أو الإعتداء على الأعراض والكرامات !
ولعل هذا , أحد أهم الأسباب في وقوع الإضطرابات بين المسلمين والمسيحيين , خاصة في عصور دولة الإسلام , وقد شهد بهذا العديد من المؤرخين المسيحيين , ونقلت هذه الشهادة المجملة - بطريق غير مباشر - , أحد أبرز الكُتَاب الحاقدين على الإسلام والمسلمين , وهى السيدة العنصرية " أ.ل.بتشر الإنكليزية " في مؤلفها " تاريخ الأمة القبطية وكنيستها " , إذ تقول :
( إن الوقائع التاريخية التي جرت في غصون الجيل الثامن للهجرة الموافق الجيل الرابع عشر للمسيحيين هى أعظم شاهد صادق يدلنا على عظم الإضطهاد الشديد الذي عاناه الأقباط على يد الحكام المسلمين الذين تعاقبوا حكم مصر في ذلك الجيل ...
ولو أن المؤرخين المسلمين قد أثبتوا وأكدوا أن تلك الإضطهادات قد جلبها الأقباط على أنفسهم - أي أنهم كانوا السبب في وقوعها عليهم - , وقد جارى المؤرخون المسيحيون إخوانهم في إثبات ذلك بلا بحث في الحوادث والوقائع للحصول على الحقائق التاريخية , كما هى عادة أغلب المؤرخين الإفرنج فقد كانوا يستعملون كلمات نييل المؤرخ الفرنساوي : " حدث بسبب خطأهم " – أي الأقباط – إلا أني قد فحصت تلك الوقائع التاريخية فحصًا دقيقًا في تاريخ المقريزي الذي يُعتبر أصدق مؤرخ مسلم وبعض كتب تاريخية إسلامية أخرى توجه التهم إلى الأقباط فاتضح لي بعد التمعن أن أولئك المؤرخين لم يكونوا على ثقة تامة من إثباتها ... ) ( تاريخ الأمة القبطية وكنيستها 4/1 ) .
فيكفينا ما ذكرته هذه المرأة العنصرية من إجماع المؤرخين المسيحيين والمسلمين على أسباب النزاعات التي قامت أنذاك , وليت شعري إذا كان الأمر على النحو الذي ذكرته هذه المرأة , فما الذي دفع المؤرخين المسيحيين لمجارة المؤرخين المسلمين حسب زعمها ؟! ألا يستحي هؤلاء حين يطعنون في ذمم أسلافهم ؟!
ولك أن ترجع عزيزي القاريء إلى تاريخ المقريزي , لتعلم كذب هذه المرأة وتزويرها , وأن دعوى فحصها الدقيق هو من باب ذر التراب في العيون لخداع القاريء الغربي , فالمقريزي ما ذكر خبرًا من أخبار القوم أصابتهم فيه مصيبة إلا وذكر أن ذلك بما كسبته أيديهم – كما جاء بيان ذلك سلفًا – , حتى قال رحمه الله : ( ولا يخفى أمرهم - أي النصارى - على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته !) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .
وهذه المرآة العنصرية جاء كل كلامها في مؤلفها سالف الذكر بلا دليل واحد يثبت صدق مزاعمها , بل أخذت تبث سمومها وأحقادها طاعنة في شهادات من سبقها بمئات السنين من المؤرخين المسيحيين دون دليل أو سند أو مرجعية توثيقية لما تزعمه , وكل ذلك تم في مؤلفها تحت عنوان خادع , إلا هو : " البحث والفحص الدقيق " !! فتزعم الزعم الموافق لما تريد الترويج له من حقد بغض , ثم تدعي أن هذا ما وقفت عليه بعد البحث الدقيق !! ولم تخبرنا هذه العنصرية : أين هى أدلة بحثها ؟! وما هى مصادر فحصها ؟! وما هو سند دليلها – إن وُجد الدليل أصلاً – ؟!
بل إنك لتعجب من عدم وجود مرجع واحد تتكأ عليه في مؤلفها في معظم الأخبار المسطرة فيه , فهى تورد الأخبار دون الإشارة إلى مصدر أو مرجع معين للإحالة إليه , وهى تريدنا أن نأخذ كلامها المرسل هذا على وجه التسليم والقبول المقطوع بصحته نقلاً وعقلاً !
أما ما تنسبه هذه المرأة لمرجع أو مصدر معين - وهو قليل جدًا - , تجد خلافه قطعًا عند الرجوع إلى هذا المصدر , وهذا حال جميع المؤلفات العنصرية الحاقدة , إذ تجد الكذب والتزوير فيها وقد عجزت الشياطين عن الإتيان بمثله !
والأعجب من هذا , أن العديد من قساوسة النصارى اليوم يميلون إلى هذه المؤلفات حين الإستدلال , ومعلوم أن هذه المؤلفات عجت صدور أصحابها بالحقد والتعصب الصليببي على الإسلام وشريعته , وعلى المسلمين ومقدراتهم , تاركين – عن عمد – أهم المراجع التاريخية المسيحية في هذا الباب , والتي يُعد بعضها أقدم من مراجع الحاقدين بمئات السنين, ومن الناحية التوثيقية لا غبار عليها – عندهم لا عندنا – , بل حسبك أن كاتبيها كانوا للأحداث أقرب , فضلاً عن أرثوذكسية إنتماءاتهم وعربية لسانهم !
يقول الأستاذ / أحمد عبد الله في إحدى دراساته حول هذا الأمر : ( ... عندما رجعت إلى إثنين وثمانين حادثًا , هى كل ما حدث من مواجهات بين المسلمين والنصارى في مصر على مدى التاريخ , وجدت أن وراء هذه الفتنة دائمًا , رجلاً نصرانيًا جاء لكرسي الكنيسة , أو رجلاً مسلمًا جاء لكرسي الحكم , يريد أن يعبث بحقده وغله , محتكمًا إلى هواه ومزاجه الخاص , المخالف للكتب الإلهية , محاولاً قطع أوصال التفاعل التاريخي الإنساني الفكري الثقافي الصامد والصامت والممتد , حتى أصبح وشيجة من وشائج جسد الأمة , تصرخ له كلها إن جرح , وتتألم له إن أوذي , تلك الصرخات وآهات الألم التي تصيب الجسد المارد بذلك الداء الذي أسموه بـ " الفتنة الطائفية " ) (أبو إسلام أحمد عبد الله - الحضارة الغائبة , تاريخ النصرانية في مصر ص 7 ) .
أعود فأقول : إن القوم لا يفرقون بين كل هذه الأمور عند إطلاق دعوى " الإضطهاد " , فهم يريدون التمكين ولو على حساب رقاب المسلمين , فإذا ما أوقفنا تعديهم وتطاولهم , خرجوا على العالم بمزاعم " الإضطهاد " !
نقلا عن "أبي حاتم بن عاشور" - مجلس الألوكة .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في أحداث سنة سبع وستين وسبعمائة:
"وردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج لعنهم الله، وذلك أنهم وصلوا إليها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر الله المحرم، فلم يجدوا بها نائبا ولا جيشا، ولا حافظا للبحر ولا ناصرا، فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعد ما حرقوا أبوابا كثيرة منها، وعاثوا في أهلها فسادا، يقتلون الرجال ويأخذون الأموال ويأسرون النساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير المتعال.
وأقاموا بها يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري (قوة من صفوة المماليك)، فأقلعت الفرنج لعنهم الله عنها، وقد أسروا خلقا كثيرا يقاومون الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهبا وحريرا وبهارا وغير ذلك ما لا يحد ولا يوصف، وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظهر يومئذ ، وقد تفارط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشوائن بالبحر، فسمع للأسارى من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين، ما قطع الاكباد، وذرفت له العيون وأصم الاسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شق عليهم ذلك جدا، وذكر ذلك الخطيب يوم الجمعة على المنبر فتباكى الناس كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطُلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعا، وقد طلبت يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتماعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة، فرأيت منه أنسا كثيرا، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى، فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك، فقلت له: هذا مما لا يسوغ شرعا، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار، وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير. فقال: كيف أصنع وقد ورد المرسوم بذلك ولا يمكنني أن أخالفه؟ وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام: " ائتوني بالسكين أشقه نصفين " كما هو الحديث مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جدا..." انتهى من البداية والنهاية
الفتح الإسلامي لمصر !
لقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة في السماحة والرحمة في تعامله مع النصارى على مر العصور , خاصة في مصر الحبيبة , ولم يشهد التاريخ عدلاً كعدل الإسلام ولا سماحة كسماحة الإسلام , واليوم نعرض شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية على ذلك , وهى من الأهمية بمكان , خاصة ونحن نرى نصارى اليوم , يرددون الشعارات الباطلة , من أن الإسلام قد دخل مصر بالسيف , وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه قهر النصارى واضطهدهم وأذلهم !
ولا أدري إذا قلت للنصراني : هذه شهادة أعظم علماء الكنيسة الأرثوذكسية مكانة وقدرًا في علم التاريخ , تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام دين الرحمة والعدل , فبماذا سوف يعلق ؟! وهل سيستمر في دعواه أم سيصمت ويلتزم بأقوال أبائه ؟!
شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية !
تقول لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية : " بنيامين البابا الثامن والثلاثون ( 625-664م ) : في عهده استرد هرقل ملك الروم مصر من الفرس , وأقام قِبَلِه عاملاً يونانيًا للخراج ( أي لجمع الضرائب ) اسمه جريج بن مينا وجعله فوق ذلك بطريركًا ملكيًا , وهو الملقب بالمقوقس . وكان هرقل قد أقام أساقفة خلقدونيين ( ملكيين ) لسائر إيبارشيات مصر . فاختفى البابا بنيامين هو والأساقفة الأرثوذكسيون ودام هذا الإختفاء ثلاث عشرة سنة حاق في خلالها البلاء بأهل البلاد , إذ اضطهدهم الأساقفة الملكيون بغية إكراههم على اتباع عقيدة الطبيعتين , وقد اتبعها بعضهم فعلاً .
وفي هذه الأثناء فتح العرب مصر على يد عمرو بن العاص . فكتب عمرو عهدًا بالأمان نشره في أنحاء مصر يدعو فيه البابا بنيامين إلى العودة إلى مقر كرسيه ويؤمِّنه على حياته , فظهر البابا وذهب إلى عمرو , فاحتفى به وردَّه إلى مركزه عزيز الجانب موفور الكرامة , فأخذ يعمل على أن يسترد إلى الحظيرة الأرثوذكسية الإبيارشيات التي استمالها الملكيون ( الكاثوليك ) . فكُلل عمله بالنجاح , وكذلك عمَّر الأديرة التي خربها الفرس في وادي النطرون , وجمع إليها رهبانها الباقين المشتتين , وفي آخر أيامه أراد إعادة تعمير كنيسة مار مرقس التي هدمت وقت فتح الإسكندرية , فلم تمهله المنية .
وكان البابا بنيامين موصوفًا بحسن التبصر حتى أطلق عليه لقب " الحكيم " وكان هذا من الأسباب التي جعلت عمرو يأنس إليه ويستهدي برأيه في شئون البلاد " ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 114 , 115 - تأليف لجنة التاريخ القبطي , الطبعة الثالثة 1996هـ- دار مجلة مرقس , القاهرة - مصر ) .
شهادة الأنبا شنودة !
كنت قد نقلت لكم شهادة لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة الأرثوذكسية على ما فعله عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد دخوله مصر فاتحًا , بالنصارى الأرثوذكس , وهذه الشهادة تُعد من أهم الشهادات على سماحة الإسلام ورحمته بنصارى مصر إبان الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه , وعلى الظلم والإضطهاد الذي كان النصارى الأرثوذكس يعانون منه على يد إخوانهم في الدين ( الكاثوليك ) !
وأنقل لحضراتكم شهادة أخرى على سماحة الإسلام بالنصارى في مصر , وهى لرئيس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية , ففي كتاب "مرقس الرسول القديس والشهيد " لمؤلفه " الأنبا شنودة الثالث " طبعة 1987م , إصدار مكتبة المحبة بالقاهرة . جاء فيه : " سنة 644م أبان الفتح العربي ( الإسلامي ) عبر أحد البحارة ( النصارى ) ليلاً إلى الكنيسة , فوجد تابوت القديس مرقس فتوهم أن فيه ذهبًا , فأخذه وأخفاه في خن المركب , وعندما عزم عمرو بن العاص على المسير , تقدمت المركب كلها وخرجت من الميناء , ما عدا المركب التي كان بها الرأس ... فأمر عمرو بن العاص بتفتيشها , فوجدوا الرأس في تلك المركب مخبئًا , فأخرجوه , فخرجت المركب حالاً , واستحضر الرجل الذي اعترف بعد وقت بسرقته , فضربه وأهانه .
ثم سأل عمرو بن العاص عن بابا الأقباط الذي كان في حالة هروبه إلى الصعيد (13 عامًا) خشية أضطهاد الملكيين ... فكتب له عمرو بن العاص خطابًا بخط يده يطمئنه , فحضر البابا واستلم منه الرأس " ( مرقس الرسول القديس والشهيد ص 70 ) .
ولم يكتف البابا شنودة بهذه الشهادة بل ذكر : " أن عمرو بن العاص أعطى عشرة آلاف دينارًا للبابا بنيامين من أجل بناء كنيسة عظيمة لصاحب هذه الرأس - أي مرقس - فبنى البابا بينيامين الكنيسة " المعلقة " الكائنة إلى يومنا هذا في شارع المسلة بالثغر , ودفن فيها الرأس إلى الأن " ( المصدر السابق ) .
وإن كنا لا نقول بما قال به البابا شنودة حرفيًا , لكن هذا تاريخهم , وهذه شهادتهم !!
شهادة الكاثوليك !
رغم انتصار عمرو بن العاص رضي الله عنه للمظلوم وهم الأرثوذكس على حساب الظالم وهم الكاثوليك , إلا أنهم أقروا بسماحة الفتح الإسلامي لمصر - أي الكاثوليك - , لكنهم كالعادة طعنوا في الأرثوذكس , فزعموا أنهم خدموا العرب , فلذلك أحسنوا إليهم وأعطوهم كنائس الكاثوليك !!
يقول الأقباط الكاثوليك في مدونتهم على شبكة المعلومات تحت عنوان : " تاريخ الكنيسة القبطية الكاثوليكية " : ( أما عمرو بن العاص, كتب إلى البطريرك بنيامين طالباً منه أن يعود ليدير بيعته وطائفته. فعاد بنيامين إلى الإسكندرية بعد غيبة استمرت 13سنة . وأحسن عمرو استقباله , كما عاد كثير من الأقباط الهاربين إلى أراضيهم . كانت سياسة عمرو ترمى إلى كسب مودة الأقباط , واحترام شعورهم الديني, ولم يستولى على ممتلكات الكنيسة , لكنه كافأ الأقباط اليعاقبة على خدماتهم للعرب , إذ تركهم يستولون على معظم كنائس الملكيين وأديرتهم. ولم يضغط على الأقباط ليعتنقوا الإسلام وكلفهم بحصر الضرائب , وعين لهم قاضياً مسيحياً ليحكم بينهم حسب ما جاء في شريعتهم , وتولى عبد العزيز بن مروان ولاية مصر بعد وفاة عمرو (٦٨٥ م) ، وهو أول من فرض الجزية على الرهبان والأساقفة والبطاركة. وخلاف ذلك كان حكمه عادلاًً. واتخذ له كاتبين أرثوذكسيين هما أثناسيوس , واسحق وخدما مصالح الأقباط ومصالح البطريرك يوحنا السمنودى(٦٧٧ – ٦٨٦م). وكان بعض حكام الأقاليم من الأقباط أشهرهم بطرس حاكم الصعيد الذي اعتنق الإسلام في نهاية حكم عبد العزيز بن مروان . وكان حاكم مريوط يتبع المذهب الملكي. ثم تولى ولاية مصر قرة بن شريك الذي ترك معظم وظائف الدولة في أيادي الأقباط ) .
الإضطهاد بين الحقيقة والإفتراء !
رغم كل ما قيل , فنحن لا ندعي العصمة لأحد إلا لله ولرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , فأما الحكام وأولي الأمر , فهم ليسوا بمعصومين , ولكن من حكم فينا بشرع الله فهو العادل , ومن خالف الشرع فهو ظالم لنفسه وأمته وشعبه , فأي ظلم وقع على النصارى – بغير وجه حق – على يد حاكم مسلم فالإسلام منه بريء , ورغم هذا لم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً , فقد كان الرأي العام - والفقهاء معه – دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين , وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه .
والنصارى الأرثوذكس في كتبهم يعتبرون أي فعل من شأنه إقامة الدولة وتنظيم الأحوال المدنية والشخصية بين أفراده من باب الإضطهاد !! فلقد نسوا ما هو الإضطهاد الذي عانوا منه على يد إخوانهم الكاثوليك من قتل وسفك وتشريد قبل الفتح الإسلامي , بعد أن تنعموا بالحرية والعدل في ظل الإسلام ودولته !!
فإذا أخذنا من البالغين القادرين على حمل السلاح الجزية , جزاء حمايتهم وكفايتهم عدوا ذلك في كتبهم من الإضطهاد !! وهم الذين كانوا يدفعون الضرائب رغمًا عنهم , ودون أي إعفاء لكبير أو صغير من الجنسين , وليس من أجل الحماية والكفاية عنهم !!
وإذا قمنا بتغيير اللغة الرسمية للبلاد عدوا ذلك من باب الإضطهاد !! كما فعل عبد الله بن عبد الملك بن مروان في مصر شرفها الله , ولا ندري أي اضطهاد في ذلك , وقد صارت مصر دولة إسلامية يحكمها لسان عربي , كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , واللذان ضمنا حرية العقيدة والتدين لأهل الذمة !
بل لقد كان النصارى في مصر – على سبيل المثال – هم أول من أثاروا الفتن بعد الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص , فبالرغم من إكرام عمرو بن العاص ومن جاء بعده لهم إلا أنهم أرادوا زعزعة أمن البلاد واستقراره !
يقول الأقباط الكاثوليك في مدونتهم على شبكة المعلومات تحت نفس العنوان أعلاه : ( في عام 754م كوَّن أقباط الصعيد جيشاً لتحرير البلاد في عهد عمر بن عبد العزيز , لكنهم هزموا , وفي عام ٧٥٥م- ٧٧٩م تكون جيش من أقباط الوجه البحري بقيادة مينا بن بكير . استولى على سمنود ورشيد والبحيرات ودمياط . وهزموا جيوش الوالي عمر بن عبد العزيز , تلاه جيش مروان , ثم جيش الكوثر بن الأسود الذي انتقم بأن قبض على البطريرك ميخائيل , ورد الأقباط على ذلك بأن أحرقوا مدينة رشيد وقتلوا من فيها من المسلمين . لكنهم هزموا عام ٧٧٦ م على يد موسى بن على ) .
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه , الخليفة العادل , الذي أكرم النصارى وأمنهم على حياتهم وكنائسهم وأموالهم وسدد ديونهم , أرادوا زعزعة دولته ومحاربته !!
الذي يجب أن يعرفه النصارى أن الإسلام ضمن لهم العهد طالما أنهم لم يحاربوا دولته , وأرادوا زعزعة أمنه واستقراره , أما إن كان الأمر منهم نقيض ذلك , فلقد أوجب الإسلام علينا أن نطهر جسد الدولة من هذه النتوءات التي تحيا على حسابه !
مثال أخر على الإضطهاد المزعوم !
تستطرد لجنة التاريخ القبطي في حديثها عن أحداث القرن التاسع فتقول : ( نبغ في هذا القرن – القرن التاسع – مهندس قبطي اسمه سعيد بن كاتب الفرغاني . من قرية تدعى فرغونيس اندثرت معالمها . كانت قريبة من تيده بمركز كفر الشيخ . وهو الذي تولى في عهد أحمد بن طولون بناء مقياس النيل والصهريج المعروف بصهريج ابن طولون . وبعد أن أتم بناء المقياس أُلقي في السجن ونُسي أمره . ( لاحظ أنهم لم يذكروا السبب ) .
ثم اتفق بعد مدة أن ابن طولون عزم على بناء جامعه الكبير على مثال يحفظه من الغرق والحريق وأراد أن يجعله أعظم وأجمل ما بني من نوعه . فاستدعى المهندسين والخبراء وشاورهم في بنائه فرأوا أن الجامع يحتاج ثلاثمائة عمود , وهذه الأعمدة لا يسهل الحصول عليها إلا إذا هُدم عدد عظيم من الكنائس والمعابد القديمة - !!! - .
وسمع ابن كاتب الفرغاني بالخبر وهو في السجن , فكتب إلى أحمد بن طولون يعرض عليه استطاعته بناء الجامع بغير حاجة إلا إلى عمودين اثنين لا غير واستبدال دعائم من الآجر ببقية الأعمدة لما للآجر من خاصة مقاومة الحريق . فلما قرأ طولون عريضته استدعاه إليه وقبل العمل بمشورته وطلب منه أن يضع نموذجًا مجسمًا لذلك البناء الضخم فصنعه ابن كاتب من الجلد , ولعله أول من فكر في عمل نماذج مجسمة للأبنية من هذا النوع قبل البدء فيها . فسُر ابن طولون وعهد إليه ببناء الجامع وعدل عن الرأي القائل بهدم الكنائس وأخذ الأعمدة منها - !!! – فنجت الكنائس بفضل ذلك المهندس الماهر وجعل تحت تصرفه مائة ألف دينار على أن تزاد عند الحاجة , فتعهد المهندس العمل إلى أن أتمه في رمضان سنة 265هجرية ( سنة 879 م ) . وعند الإحتفال بإفتتاحه وزعت الصدقات على الفقراء وأرسلت الهدايا إلى مستحقيها فنال المهندس عشرة آلاف دينار , وعدا ذلك أمر أحمد بن طولون بأن يجري عليه الرزق مدة حياته ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
ونسأل : أين الإضطهاد ؟!
نقول مع التحفظ على صحة ما ذكرته لجنة التاريخ القبطي : إن قصة ذلك المهندس النصراني أكبر دليل على رحمة الإسلام وسماحته واهتمامه بأهل الذمة في أقطاره , كما فيه إشارة إلى تكريم الإسلام للمبدعين حتى ولو كانوا لا يدينون بدين الإسلام .
وهذه القصة ذكرها العلامة المقريزي في تاريخه , هذا نصها : ( وقال جامع السيرة الطولونية : وأما رغبته في أبواب الخير فكانت ظاهرة بينة واضحة ، فمن ذلك بناء الجامع والبيمارستان ( المستشفى ) ، ثم العين التي بناها بالمغافر ... والذي تولى لأحمد بن طولون بناء هذه العين رجل نصراني حسن الهندسة حاذق بها ، وإنه دخل إلى أحمد بن طولون في عشية من العشايا فقال له : إذا فرغت مما تحتاج إليه فأعلمني لنركب إليها فنراها ، فقال: يركب الأمير إليها في غد ، فقد فرغت ، وتقدم النصراني فرأى موضعًا بها يحتاج إلى قصرية جير وأربع طوبات ، فبادر إلى عمل ذلك ، وأقبل أحمد بن طولون يتأمل العين فاستحسن جميع ما شاهده فيها ، ثم أقبل إلى الموضع الذي فيه قصرية الجير فوقف بالإتفاق عليها ، فلرطوبة الجير غاصت يد الفرس فيه فكبا بأحمد ، ولسوء ظنه قدر أن ذلك لمكروه أراده به النصراني ، فأمر به فشق عنه ما عليه من الثياب وضربه خمسمائة سوط ، وأمر به إلى المطبق ( السجن ) ، وكان المسكين يتوقع من الجائزة مثل ذلك دنانير ، فاتفق له اتفاق سوء .
وانصرف أحمد بن طولون وأقام النصراني إلى أن أراد أحمد بن طولون بناء الجامع ، فقدر له ثلاثمائة عمود فقيل له ما تجدها ، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع الخراب ، فتحمل ذلك . فأنكره ولم يختره ، وتعذب قلبه بالفكر في أمره ، وبلغ النصراني وهو في المطبق الخبر ، فكتب إليه : أنا أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة ، فأحضره وقد طال شعره حتى تدلى على وجهه ، فبناه ) ( المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار 2/226 ) .
لقد أخفت لجنة التاريخ القبطي سبب سجن هذا المهندس , لإيهام القاريء أنه شهيد الإضطهاد , في حين أن العلامة المقريزي ذكر سبب سجن هذا المهندس , وهو أن ابن طولون ظن أنه أراد به السوء , كما أن العلامة المقريزي ذكر أن السلطان أحمد بن طولون كره الرأي القائل بحمل الأعمدة من الكنائس , ولم يختره , بل استبعده وأنكره فور اقتراحه , فلم يعد لذكر لجنة التاريخ القبطي أن المهندس اختار بناء الجامع إنقاذًا للكنائس أي أهمية , بل هو تضليل عن الحق , فالمهندس إختار الإشراف على التنفيذ بمحض إرادته وليس لإنقاذ الكنائس .
وعلى كل حال , فرواية لجنة التاريخ القبطي تظهر حقيقة دعوى الإضطهاد المزعوم !!
وقد ذكر المؤرخون مواقف مشرفة لأحمد بن طولون في تعامله مع النصارى , أذكر منها أنه قد شكا أحد رهبان النصارى في مصر إلى الوالي " أحمد بن طولون " أحد قواده , لأنه ظلمه وأخذ منه مبلغًا من المال بغير حق , فما كان من "ابن طولون" إلا أن أحضر هذا القائد وأنَّبه وعزره وأخذ منه المال ورده إلى النصراني , وقال له : لو ادعيت عليه أضعاف هذا المبلغ لألزمته به , وفتح بابه لكل متظلم من أهل الذمة , ولو كان المشكو من كبار القواد وموظفي الدولة . ( انظر فتوح البلدان للبلاذري ص 166-167 ) .
وقال الحافظ ابن كثير : ( واتفق أنه وقع بها - أي دمشق - حريق عند كنيسة مريم , فنهض بنفسه إليه - أي ابن طولون - ومعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر والحافظ الدمشقي وكاتبه أبو عبد الله أحمد بن محمد الواسطي , فأمر كاتبه أن يخرج من ماله سبعين ألف دينار تصرف إلى أهل الدور والأموال التي أحرقت , فصرف إليهم جميع قيمة ما ذكره , وبقي أربعة عشر ألف دينار فاضلة عن ذلك فأمر بها أن توزع عليهم على قدر حصصهم , ثم أمر بمال عظيم يفرق على فقراء دمشق وغوطتها فأقل ما حصل للفقير دينار رحمه الله ) ( البداية والنهاية 11/40 ) .
الحاكم بأمر الله العبيدي ودعوى الإضطهاد !
تقول لجنة التاريخ القبطي : ( القرن العاشر : ذاقت الكنيسة طعم الراحة معظم هذا القرن ولكن الأحوال تبدلت في أواخره , فاضطرمت نار الإضطهاد في أيام الحاكم بأمر الله . فهدم من الكنائس ما هدم , وأقفل منها ما أقفل ونهبت الأديرة . وحرم على المسيحيين أن يقيموا الصلاة جهارًا . فاعتنق كثير من نصارى مصر الإسلام , غير من استشهد منهم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
لقد أكثر النصارى الأرثوذكس ذكر الأحداث والبلايا التي حدثت في زمن الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله , سادس الخلفاء الفاطميين في مصر , ونسوا أن يحتكموا إلى العقل والمنطق عند النظر في التاريخ , فهم قد تمسكوا بالأحداث التي من شأنها زيادة الحقد والكراهية في نفوسهم دون تمحيص أو تدقيق , بل تعمدوا البتر والتضليل , وهذا وإن دل على شيء فإنما يدل على تحزبهم لفكرة الإضطهاد , ونشر ثقافة الكراهية والحرمان بين الرعية , فتخيل نفوسًا هذا شأنها , كيف تنظر في التاريخ , وماذا تستنبط منه ؟!
لقد كان أولى لهم أن ينظروا في الأيام التي سعدوا فيها في ظل حكم الإسلام كما شهدوا على أنفسهم , فيستبنطون منها أن السعادة والرخاء والعدل والأمان في تحكيم وتطبيق شرع الله في أرضه , الإسلام الحنيف , وأن الظلم والقسوة في تحكيم غير شرع الله , فلا عصمة لحاكم , ولكن من أقام تعاليم الإسلام في شتى مناحي الحياة تنعم شعبه وازداد رخاءً , فهذا ضمان الله تبارك وتعالى لمن أقام دينه في الأرض وطبق تعاليمه , وقد شهد النصارى أنفسهم على ذلك كما بيَّنا .
والقوم كعادتهم , غفلوا عن أن ظلم الحاكم بأمر الله العبيدي , نال كل حي في مصر , لا النصارى فقط , فهو – قبحه الله – كان من شرار الخلق وأخبثهم , وكان كارهًا للمسلمين أكثر من كرهه لليهود والنصارى .
وقد شهد بذلك أحد أكبر مؤرخي النصارى وهو سعيد بن البطريق في تاريخه المسمى بـ " كتاب التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق " ( 2/180-234 ) .
والدولة العبيدية أو الفاطمية يعلم كل ناظر خبير من غير المسلمين في تاريخ الإسلام كرهها للإسلام وأهله , إذ تبنت عقائد الإسماعيلية الباطنية ونشر مباديء الإلحاد , خاصة في عهد الحاكم بأمر الله العبيدي , التي كانت ولايته شرًا على الخلق أجمعين !
قال الذهبي في تاريخه : ( منصور الحاكم بأمر الله . أبو علي صاحب مصر ابن العزيز نزار بن المعز بالله العبيدي . كان جوادًا سمحًا خبيثًا ماكرًا رديء الإعتقاد سفاكًا للدماء قتل عددًا كبير من كبراء دولته صبرًا . وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورًا وأحكامًا يحمل الرعية عليها . فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع وأمر العمال بالسب في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة . وأمر فيها بقتل الكلاب فقتلت عامة الكلاب في مملكته . وبطل الفقاع والملوخيا . ونهى عن السمك الذي لا قشر له وظفر بمن باع ذلك فقتلهم . ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب . ثم جمع منه شيئًا عظيمًا فأحرق الكل ومنع من بيع العنب وأباد الكثير من الكروم ) ( تاريخ الإسلام 1/2976 ) .
وقال العلامة أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه : ( وكانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام ، وجبن وإحجام ، ومحبة للعلم وانتقام من العلماء ، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء , وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى ، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ... ومنع من صلاة التراويح عشر سنين ) ( ابن تغري بردي : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 1/ 446) .
وقال ابن الصابيء : ( وكان المصريون موتورين منه ، فكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بالدعاء عليه والسب له ولأسلافه ، والوقوع فيه وفي حرمه ) ( المصدر السابق 1/448 ) .
وقال الذهبي أيضًا : ( ثم زاد ظلم الحاكم ، وعن له أن يدعي الربوبية ، كما فعل فرعون ، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون : يا واحد يا أحد ، يا محيي يا مميت ... قلتُ : بل لعنة الله على الكافر ) ( تاريخ الإسلام 6/466 – 467 ) .
وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه " مرآة الزمان " : ( رأيت في بعض التواريخ بمصر أن رجلاً يعرف بالدرزي قدم مصر ، وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ ، فاجتمع بالحاكم وساعده على ادعاء الربوبية وصنف له كتابًا ذكر فيه أن روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علي بن أبي طالب ، وأن روح علي انتقلت إلى أبي الحاكم ، ثم انتقلت إلى الحاكم . فنفق عند الحاكم وقربه وفوض الأمور إليه ، وبلغ منه أعلى المراتب ، بحيث إن الوزراء والقواد والعلماء كانوا يقفون على بابه ولا ينقضي لهم شغل إلا على يده . وكان قصد الحاكم الإنقياد إلى الدرزي المذكور فيطيعونه . فأظهر الدرزي الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة ، فثار الناس عليه وقصدوا قتله ، فهرب منهم ، وأنكر الحاكم أمره خوفًا من الرعية ، وبعث إليه في السر مالاً، وقال : اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال ، فإن أهلها سريعو الإنقياد . فخرج إلى الشام ، ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة ، غربي دمشق من أعمال بانياس ، فقرأ الكتاب على أهله ، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال ، وقرر في نفوسهم الدرزي التناسخ ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه ، وأقام عندهم يبيح لهم المحظورات ) ( النجوم الزاهرة 1/449 ) .
ونقل الحافظ ابن كثير في تاريخه " البداية والنهاية " طعن أئمة علماء بغداد من المسلمين في الحاكم بأمر الله وأسلافه : ( ... وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار , ملحدون زنادقة , معطلون , وللإسلام جاحدون , ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون , قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج , وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء , وسبوا الأنبياء , ولعنوا السلف , وادعوا الربوبية ) ( البداية والنهاية 11/303 , وانظر بقية سيرته الملعونة قبحه الله 12/8-10 ) .
فهذا بعض ما فعله الحاكم بأمر الله العبيدي بالإسلام والمسلمين , وكتب التاريخ ممتلئة بأفعاله الشنيعة بالمسلمين قبل اليهود والنصارى , إذ أنه في نهاية المطاف عفا عن النصارى وأعاد كنائسهم إلى حالها , بل سمح لمن أسلم منهم خوفًا منه أن يعود إلى النصرانية . وقد جاء ذلك في كتب تاريخ المسلمين وغيرهم , بل وأكدته لجنة التاريخ القبطي , إذ قالت : ( ... ثم عفا الحاكم عن المسيحيين ومنحهم الحرية المطلقة فرجع الكثيرون إلى أحضان الكنيسة وكذا عفا عن البابا بحسن مسعى راهب يدعى بيمين كانت له مكانة عظيمة لدى الحاكم , فتسلم الكرسي بعد نفي مدة تسع سنوات وفتح الكنائس وقام بتعمير المتهدم منها واستمر على الكرسي إلى أن انتقل إلى الرب في سنة 1032م في أيام الظاهر بن الحاكم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 122 ) .
أما المسلمون فلقد ظلوا يذوقون الظلم والقسوة والحرمان حتى انتهى أمر الملعون بأمر الله , الحاكم بأمر الشيطان , سنة إحدى عشر وأربعمائة .
فلماذا يكثر النصارى ذكر الإضطهاد الذي وقع عليهم من قبل الحاكم بأمر الله وينسبون ذلك إلى الإسلام أو المسلمين ؟! وهل كان الحاكم هذا من القائمين بشرع الله في أرضه ؟! أم كان فاجرًا كفارًا لا يمت للإسلام والمسلمين بصلة ؟!
وهل هذا الحاكم لم يضطهد غير النصارى ؟! بل أقول : لقد كانوا أقل الناس معاناة من ظلمه وقسوته آنذاك , فأم الحاكم هذا كانت رومية نصرانية , وكان لها نفوذ كبير في الدولة , وكان لهذا النفوذ أثره بلا ريب في سياسة التسامح الواضح التي اتبعها زوجها " العزيز " تجاه النصارى , وفي تقوية جانبهم ونفوذهم , حتى صار عيسى بن نسطورس النصراني رئيسًا للوزراء عند العزيز !
لكن مع ازدياد هذا النفوذ في ولاية الحاكم بأمر الله , اشتد بأس النصارى وظلمهم على المسلمين , وقد كان هذا أحد أهم الأسباب لإضطهاد الحاكم بأمر الله للنصارى , فالنصارى هم سبب ما فعله الحاكم بأمر الله بهم , وليس الإسلام , بل ولا حتى الحاكم العبيدي , وقد شهد بذلك الأستاذ مينا إسكندر صاحب كتاب " القول الإبريزي للعلامة المقريزي " عن الأقباط في مصر ( طبع سنة 1898م على نفقة " جمعية التوفيق " القبطية المركزية بالقاهرة ) . والذي عمد فيه إلى صفحات من مؤلف العلامة المقريزي " المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار " . وكتاب " القول الإبريزي " له شهرة عظيمة , فلقد اعتمد عليه الأوربيون والمستشرقون عندما كتبوا عن الأقباط وكنائسهم ودياراتهم دون الإعتماد على خطط المقريزي , وترجم إلى عدة لغات أوربية .
يقول الإستاذ مينا في مقدمة كتابه : ( لما رأيت أبناء الأقباط قد هبوا من غفوتهم , والتفتوا إلى ماضي أمتهم , دفعتني الغيرة لتنبيه الكثير منهم إلى مطالعة ما كتبه المقريزي في كتابه الخطط عن الأقباط , وبطاركتهم , وكنائسهم , ودياراتهم .. مما يلذ معرفته , ويتعذر وجوده في مؤلفات أخرى .. ولما كانت نسخ هذا الكتاب ( أي خطط المقريزي ) قليلة , محصورة , ناردة الوجود .. استعنت الله في طبع ما يختص بالأقباط من هذا الكتاب في كراسة مخصوصة , سميتها : " القول الإبريزي للعلامة القريزي " عن الأقباط ) .
وفي صفحة 52 يذكر الأستاذ مينا إسكندر نقلاً عن المقريزي ما نصه : ( وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة قدم اليعاقبة زخريس بطركاً ، فأقام ثماني وعشرين سنة ، منها في البلايا مع الحاكم بأمر الله أبي عليّ منصور بن العزيز باللّه تسع سنين ... وفي بطركيته نزل بالنصارى شدائد لم يعهدوا مثلها ، وذلك أن كثيراً منهم كان قد تمكن في أعمال الدولة حتى صاروا كالوزراء وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم ، فاشتدّ بأسهم وتزايد ضررهم ومكايدتهم للمسلمين ، فأغضب الحاكم بأمر الله ذلك ، وكان لا يملك نفسه إذا غضب ) ( راجع الخطط للمقريزي 3/259-290 ) .
وهكذا حال القوم كلما تعاظمت منازلهم وارتفعت نجومهم في ظل الحق والعدل الذي ضمنه لهم الإسلام , فهم أجود بالحقد والظلم من الريح المرسلة كلما سنحت لهم الفرصة , فتوجهاتهم للإيذاء والخروج على الدولة أسبق من حفظ العهد مع أهل الإسلام , كأهل ذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا , وما أشبه الليلة بالبارحة !
وعن تخريب الحاكم لكنيسة القيامة ببيت المقدس , فلقد ذكر الحافظ ابن كثير في موسوعته التاريخية " البداية والنهاية " أن السبب في أمر الحاكم بتخريب الكنيسة هو : " البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح من النار التي يحتالون بها , وهى التي يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء , وإنما هى مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الإبريسم والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره , بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام " ( البداية والنهاية 11 / 297-298 ) .
ونسأل : أين الإضطهاد الذي أوقعه الإسلام على أهل الذمة ؟!
أحداث القرن الرابع عشر ودعوى الإضطهاد !
تقول لجنة التاريخ القبطي : ( القرن الرابع عشر , كان هذا القرن شؤمًا على الكنيسة , خُربت فيه البيع تخريبًا فظيعًا وصودرت أملاكها , وهُدم معظم الأديرة , وضوعفت الجزية على الأقباط وقُتل من قُتل وأسلم من أسلم , حتى أشرفوا على الفناء . وكان للكنائس أوقاف تبلغ 25 ألفًا من الأفدنة أخذها الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاون من المماليك البحرية وأنعم بها على الأمراء . ولم يأت آخر القرن حتى كانت إبراشيات عديدة في الوجه البحري قد تلاشت لانقراض مسيحييها ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 132 ) .
بل مكر الليل والنهار !
تتحدث اللجنة وبراءة الأطفال في عينيها , وكأن جريمتهم أنهم نصارى فقط !
نعوذ بالله من خبث القوم !
لقد شهد التاريخ , أن النصارى في مصر ذاقوا طعم العدل والأمن والحرية طالما حفظوا العهد المبرم بيننا وبينهم , لكنهم – دائمًا – كانوا أسبق للخيانة والغدر ونكران الجميل , ولذلك علم الحكام والولاة على مر العصور أنهم للميل إلى الخروج عن نظام الدولة وإثارة الفتن أقرب , وأنهم يستغلون جو الحرية والعدل والأمن والرخاء لتحقيق مآرب أخرى , أهمها القضاء على الإسلام ودولته , وقد شهد تاريخ النصارى بذلك كما بيَّنا بعضه , ولذلك عمل العديد من الولاة في مصر على تحجيم سلطات النصارى كلما رأى منهم الخيانة والخديعة .
وينقل لنا الأستاذ مينا إسكندر في كتابه " القول الإبريزي للعلامة المقريزي " أحداث القرن الرابع عشر نقلاً عن العلامة المقريزي , فيخبرنا أن " سنجر الشجاعي " أحد مماليك المنصور قلاون , قد شدد على النصارى , فلما مات الملك " المنصور " وخلفه ابنه الملك " الأشرف خليل " خدم الكتاب النصارى عند الأمراء فارتفع نجمهم واشتد بأسهم وازداد ظلمهم للمسلمين !
يقول العلامة المقريزي : ( فلما مات الملك المنصور وتسلطن من بعده ابنه الملك الأشرف خليل ، خدم الكتاب النصارى عند الأمراء الخاصكية وقووا نفوسهم على المسلمين ، وترفعوا في ملابسهم وهيآتهم ، وكان منهم كاتب عند خاصكي يعرف " بعين الغزال " ، فصدف يومًا في طريق مصر سمسار شونة مخدومه ، فنزل السمسار عن دابته وقبل رجل الكاتب ، فأخذ يسبه ويهدده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير ، وهو يترفق له ويعتذر ، فلا يزيده ذلك عليه إلا غلظة ، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ، ومعه عالم كبير ، وما منهم إلا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم ، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار ، وكان قد قرب من بيت أستاذه ، فبعث غلامه لينجده بمن فيه ، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأوجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم ، فصاحوا عليهم ما يحل ، ومروا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة ، واستغاثوا نصر الله السلطان ) ( القول الإبريزي ص 59 , وانظر الخطط 3/282 ) .
ويحدثنا المقريزي عن تطاول النصارى في مصر أنذاك على عوام المسلمين , فيقول : ( وفي أخريات شهر رجب سنة سبعمائة قدم وزير متملك المغرب إلى القاهرة حاجًا ، وصار يركب إلى الموكب السلطاني وبيوت الأمراء ، فبينما هو ذات يوم بسوق الخيل تحت القلعة ، إذا هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة ، وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرعون إليه ويقبلون رجليه ، وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه . فقال له بعضهم يا مولاي الشيخ بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا ، فلم يزده ذلك إلا عتوًا وتحامقًا ، فرق المغربي لهم وهم بمخاطبته في أمرهم ، فقيل له : وأنه مع ذلك نصراني ! فغضب لذلك وكاد أن يبطش به ، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة وجلس مع الأمير سلار نائب السلطان ، والأمير بيبرس الجاشنكير ، وأخذ يحادثهم بما رآه وهو يبكي رحمة للمسلمين بما نالهم من قسوة النصارى ، ثم وعظ الأمراء وحذرهم نقمة الله ، وتسليط عدوهم عليهم من تمكين النصارى من ركوب الخيل ، وتسلطهم على المسلمين وإذلالهم إياهم ، وأن الواجب إلزامهم الصغار ، وحملهم على العهد الذي كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فمالوا إلى قوله وطلبوا بطرك النصارى وكبراءهم وديان اليهود ، فجمعت نصارى كنيسة المعلقة ونصارى دير البغل ونحوهم ، وحضر كبراء اليهود والنصارى ، وقد حضر القضاة الأربعة وناظروا النصارى واليهود ، فأذعنوا إلى إلتزام العهد العمري ) ( القول الإبريزي ص 61 , وانظر الخطط 3/283 ) .
فمن السبب فيما حدث من بلايا وأرزاء ؟!
أما أحداث أوقاف الكنائس التي أشارت اللجنة إليها , فيذكر العلامة المقريزي سببها فيقول : ( وفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، رسم بتحرير ما هو موقوف على الكنائس من أراضي مصر ، فأناف على خمسة وعشرين ألف فدان ، وسبب الفحص عن ذلك ، كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بالمسلمين ، لتمكنهم من أمراء الدولة وتفاخرهم بالملابس الجليلة ، والمغالاة في أثمانها ، والتبسط في المآكل والمشارب ، وخروجهم عن الحد في الجراءة والسلاطة ... وتحدث جماعة مع الأمير طاز في أمر النصارى وما هم عليه ، فوعدهم بالإنصاف منهم ، فرفعوا قصة على لسان المسلمين قرئت على السلطان الملك الصالح صالح بحضرة الأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة ، تتضمن الشكوى من النصارى ، وأن يعقد لهم مجلس ليلتزموا بما عليهم من الشروط ، فرسم بطلب بطرك النصارى وأعيان أهل ملتهم ، وبطلب رئيس اليهود وأعيانهم ، وحضر القضاة والأمراء بين يدي السلطان ، وقرأ القاضي علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر العهد الذي كتب بين المسلمين وبين أهل الذمة ، وقد أحضروه معهم ، حتى فرغ منه ، فإلتزم من حضر منهم بما فيه وأقروا به ، فعددت لهم أفعالهم التي جاهروا بها وهم عليها ، وأنهم لا يرجعون عنها غير قليل ، ثم يعودون إليها كما فعلوه غير مرة فيما سلف ، فاستقر الحال على أن يمنعوا من المباشرة بشيء من ديوان السلطان ودواوين الأمراء ولو أظهروا الإسلام ، وأن لا يكره أحد منهم على إظهار الإسلام ، ويكتب بذلك إلى الأعمال ) ( القول الإبريزي ص 60 , وانظر الخطط 3/284 ) .
وقفة مع الأحداث !
لقد ذكر لنا المقريزي أسباب المشاحنات والنزاعات التي حدثت بين المسلمين والنصارى أنذاك , وهى أن النصارى كلما استتب لهم الأمر , وارتفعت منازلهم في الدولة , كادوا للمسلمين وأذوهم , فكان رد الفعل من عوام المسلمين منطقيًا إيذاء كثرة تعاظم النصارى وتعديهم في الشر والإضرار بهم , وعلى النصارى أن يدركوا أن سبب أي إضطهاد - مزعوم من قبلهم - , هو مكرهم وكيدهم وخبثهم وتعديهم على من حفظوا عليهم أنفسهم ودينهم وأموالهم وديارهم , فلا تلوموا إلا أنفسكم , فأنتم تجنون ما تزرعون , ومن أعمالكم سلط عليكم !
والعجيب في الأمر , أن يدعي بعض المؤرخين المسيحيين , أن دعوى تجبر النصارى على المسلمين , هى دعوى من صنع المسلمين أنذاك لإضطهاد المسيحيين , فتأمل !
ونحن من منطلق الشفقة على هؤلاء المؤرخين نقول لهم : ما الذي دفع المسلمين أنذاك ليزعموا دعواكم البالية ؟! فالأرض أرضهم , والحكم لدينهم , والجيش جيشهم , والسلطان معهم , والملك ملك دولتهم الإسلامية , أفمن كان حاله كذلك ويملك كل ذلك , إذا أراد النيل منكم والبطش بكم , أهو في حاجة لأن يدعي دعواكم البالية ؟! بل أهو في حاجة لأن يدعي أية دعوى ليبطش بكم ؟!
يا أهلنا من النصارى , إعلموا أن المسلمين أنفوا أن يصيروا غرضًا أو سببًا تنالون به شرف الإضطهاد في مؤلفاتكم !
ووالله لو كان الأمر كما تدعون , لذكره المؤرخون من المسلمين , فهم قد ذكروا مساويء الحكام المسلمين وظلمهم في بعض الفترات , بل ذكروا الخلاف الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم , وبينوا سقيمه من صحيحه , وهذا ليس بمستغرب على مؤرخينا , فهم كتبوا التاريخ من منطلق شهادة الصدق والإقرار بالحق حتى ولو كان في ظاهره ما يدين المسلمين , متبعين لأمر الله تعالى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }البقرة283 .
ولو كنا نريد البطش بكم لفعلنا ذلك منذ دخول عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر , أو فعلناه في أي وقت نريده , دون أن نزعم أي زعم فلا يوجد ما يمنعنا عن ذلك , لكننا محكمون بشرعنا الحنيف , الذي أمرنا بالقسط مع المعاهدين , ودفع الضر والظلم عنهم , والإلتزام بعهدنا فلا نغدر !
لقد ذكرت لجنة التاريخ القبطي في مؤلفها سالف الذكر , أسماء أشهر وأبرز الشخصيات المسيحية في كل قرن , ولم تكتف اللجنة بأسماء رجال الدين فقط , بل ذكرت سير مختصرة لأبرز الشخصيات المسيحية التي تفوقت في شتى المجالات العلمية والعملية , كالطب والهندسة والتجارة والوزارة , وكيف نالت هذه الشخصيات استحسان الولاة والأمراء المسلمين , فأكرموهم وأحسنوا إليهم , تقديرًا منهم للعلم والعمل والتفوق والريادة لأبناء الوطن الواحد مهما كانت انتماءاتهم وأديانهم , فكيف برز أمثال هؤلاء في ظل جو الإضطهاد المزعوم ؟!
يا أهلنا من النصارى , انظروا إلى حاضركم ليستبين لكم ماضيكم , من الذي يستغل جو العدل والسماحة للطعن في دين الأخر ورموزه عن طريق قنوات فضائية قذرة أبت إلا أن تكون كذلك ؟! من الذي يستغل جو العدل والسماحة ليفتن أتباع الدين الأخر بالطعن في دينهم عن طريق المؤلفات والكتيبات التي توزع في المحافل العامة عليهم ؟! من الذي يستغل جو العدل والسماحة ليقيم مؤسسات وشركات يعطى فيها المسلم نصف أجر المسيحي رغم قلة علم الأخير وخبراته ليجبره على اعتناق دينه ؟! من الذي يتقوى بالغرب لأرهبة أهله من أتباع الدين الأخر ؟!
رحم الله العلامة المقريزي إذ يقول : ( ولا يخفى أمرهم - أي النصارى - على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته ! ) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .
يجب على كل مسلم أن يقرأ التاريخ ليعلم ازدواجية الشخصية النصرانية المصرية , التي تركن إلى التجبر على المسلمين كلما سنحت لها الفرصة , فاليوم يرى المسلمون في مصر تجبر النصارى عليهم في وقت يتنعمون فيه بعدل الإسلام , بحركات التنصير في المصالح العامة تارة , وبالفضائيات القذرة تارة , وبالتقوي بالغرب المسيحي تارة , وبإرهاب الرهبان في الأديرة لعوام المسلمين في القرى تارة , فالأمر كما قال الله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27 .
ونحن نعلم أن هناك نصارى فيهم من الصدق والإقرار بالحق ما الله به أعلم , لذلك نحن نعرض هذه الأمور عليهم ونسألهم : أوجدتم عدلاً أفضل من عدل الإسلام ؟!
لنتعرف على إجابة أحدهم , وهو الدكتور / نبيل لوقا بباوي !
شهادة الدكتور نبيل لوقا بباوي !
الدكتور نبيل لوقا بباوي , أستاذ القانون والإقتصاد بكلية الشرطة والحقوق , وعضو جمعية الإخاء الديني , شهد شهادة عظيمة على سماحة الإسلام , فرغم أنه مسيحي أرثوذكسي يعتز بمسيحيته إلا أنه صدع بالحقيقة ولم يخش عش الدبابير من المتعصبين المسيحيين !
وسنستعرض هذه الشهادة – فيما له علاقة ببحثنا – من خلال مؤلفه " انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء " الناشر : دار البباوي للنشر , الطبعة الثانية .
يقول الدكتور نبيل لوقا بباوي : ( كان الشعب المصري القبطي الأرثوذكسي يعاني من شدة الفقر والإضطهاد الديني في ظل سيطرة الإمبراطورية البيزنطية , فقد فرضت عليه الضرائب الباهظة , والحاصلات الزراعية في مصر تذهب إلى بيزنطة , وكان البيزنطيون يكرهون أهالي مصر لأنهم عنيدون في الدخول إلى المسيحية الكاثوليكية ورغبتهم في البقاء على مسيحيتهم الأرثوذكسية وقد سار عمرو بن العاص إلى مصر في جيش من أربعة آلاف مقاتل ) ( انتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء ص 147 ) .
ويصف لنا الدكتور نبيل لوقا إضطهاد الكاثوليك للأرثوذكس فيقول : ( في عام 631م حاول هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية أن يوحد العقيدة المسيحية مرة أخرى في جميع الولايات التابعة لإمبراطوريتة حسب المذهب الأريوسي ذي الطبيعتين للسيد المسيح , وأرسل حاكم جديد هو المقوقس الذي قام بإحراقهم أحياء - أي الأرثوذكس - وانتزاع أسنانهم , لدرجة أن شقيق الأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية قام الجنود الرومان بحرق أخيه متياس وأشعلوا فيه النار حيًا لرفضه الإعتراف بقرارات الإمبراطور هرقل الجديد , ويجمع جميع المؤرخين أن هذه الحماقات من جانب المقوقس جعلت الأقباط في مصر يكرهون حكم الدولة البيزنطية وكانوا يصلون أن ينجوا من شرور الجنود الرومان , ولشدة الإضطهاد من جنود الرومان هرب البطريرك الأنبا بنيامين وترك مدينة الإسكندرية وهرب للصعيد بعد أن رأى ما حدث لأخيه وللأقباط الأرثوذكس , وفي هذا الجو المأساوي الدموي حيث تذكر كتب التاريخ القبطي أن دماء الأقباط الأرثوذكس كانت تصل إلى ركب الخيول للجنود الرومان , وفي عام 639م أتى عمرو بن العاص بجيشه إلى مصر ومعه أربعة آلاف مقاتل , وفتح مصر في هذا الجو المأساوي الذي يعيش فيه الأقباط الأرثوذكس من ويلات القتل والعذاب على الجنود الرومان , وقد عقد الأمان مع المقوقس في نوفمبر 642م بدفع الجزية أو ضريبة الدفاع على أن تقوم القوات الإسلامية بحماية المسيحيين ويسمح لهم بمباشرة عقائدهم الدينية , وأصدر عمرو بن العاص بكتاب أمان للأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الثامن والثلاثين الذي كان هاربًا في الصعيد بالعودة , وهذا نص عهد الأمان : " أينما كان بطريرك الأقباط بنيامين نعهده بالحماية والأمان وعهد الله على الأقليات .. البطرك هى هنا في أمان واطمئنان لتولي أمر ديانته ويرعى أهل ملته " . ودخل بنيامين الإسكندرية في إحتفال شعبي بعد أن ظل مختفيًا في الصحراء في الصعيد لمدة ثلاثة عشر عامًا ) ( المصدر السابق ص 157-158 ) .
ويتحفنا الدكتور نبيل لوقا قائلاً : ( لقد وصل تسامح عمرو بن العاص مع الجنود الرومان البيزنطيين وأعدائه أنه نص في عقد الأمان المبرم مع قيرس أو المقوقس كما يطلق عليه أهل مصر الذي أبرم في عام 642م أنه سمح للجيش البيزنطي بالإنسحاب من مصر وأن يحمل جنوده أمتعتهم وأموالهم وأن يتعهد المسلمون ألا يتعرضوا للكنائس الخاصة بهم , هل يوجد تسامح أكثر من ذلك ! أن تترك أعداءك يخرجون أمام عينيك بأمتعهتهم وأسلحتهم وأنت تعلم أنهم سوف ينظمون أنفسهم مرة أخرى لمقاتلتك وقتل الجيوش الإسلامية ! ولكنها تعاليم الإسلام عندما تبرم , عقد الإمان يجب الإلتزام به , وأن القتال ليس هدفًا لذاته بل هو خطوة للدفاع عن النفس ولتأمين الدولة الإسلامية الحديثة ) ( المصدر السابق ص 158- 159) .
لا عجب يا دكتور لوقا , فمن كان نهجه القرآن وسنة العدنان – صلى الله عليه وسلم – لا يُستغرب أن يصدر منه مثل ذلك !
ولا يزال الدكتور نبيل لوقا مستمرًا في تعجبه فيقول : ( إن أهم شيء في مباديء الشريعة الإسلامية التي تطبق على غير المسلمين بعد دخول عمرو بن العاص هو حرية العقيدة لغير المسلمين في مصر , تطبيقًا لمبدأ " لا إكراه في الدين " الوارد في القرآن الكريم , دستور المسلمين , وفوق ذلك غير المسلمين وفي مصر شرائع ملتهم في نطاق الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق لأنها مسائل مرتبطة بالعقائد وشرائع الملة , خاصة أن الشريعة الإسلامية يحكمها مبدأ " واتركوهم لما يدينون " ) ( المصدر السابق ص 159 بنصه ) .
وماذا عن الجزية ؟! يقول الدكتور لوقا : ( بموجب عقد الأمان بين عمرو بن العاص والمقوقس , فرض على كل قبطي ديناران , ويعفى منها أكثر من 70% من الأقباط الأرثوذكس , حيث يعفى منها القصر والنساء والشيوخ والعجزة وأصحاب المرض والرهبان , وهذا مبلغ ضئيل جدًا إذا قارناه بالضرائب التي كان يحصل عليها الحاكم الروماني , وناهيك عن المجازر الجماعية التي كان ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس ) ( المصدر السابق ص 60 ) .
وقبل اتهام النصارى للدكتور نبيل لوقا بباوي بالخيانة العظمى , والتحزب للإسلام والمسلمين من أجل أغراض دنيوية , نسألهم : لماذا لا تنظرون إلى التاريخ بعين الإنصاف والتجرد من الحزبية ؟!
July 2008 - 10:51 AM
هل رحب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر ؟!
لقد أطال النصارى الحديث حول ترحيب الأقباط الأرثوذكس بالفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص , وزعموا أن هذا لم يحدث , واستدلوا بأقوال مؤرخين يعلم تعصبهم كل ناظر خبير في علم التاريخ , كالمدعو ألفريد بتلر في كتابه " الفتح العربي لمصر " ، ترجمة محمد فريد أبو حديد ، وإصدار الهيئة المصرية للكتاب عام 1989م .
فالنصارى يتشوقون للإطلاع على أي مصدر من شأنه الطعن في فتح المسلمين لمصر , حتى ولو كان هذا المصدر لكاتب يعلم تعصبه كل عاقل , ورغم وجود شهادات عدة , قديمة وحديثة , لمؤرخين معتبرين من النصارى العرب , منهم من كان للأحداث أقرب , تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأقباط رحبوا بالفتح الإسلامي لمصر , واعتبروه منفذ الخلاص لهم من الظلم والإضطهاد الكاثوليكي , إلا أن المتعصبين من النصارى تراهم يلقون بكل ذلك وراء ظهورهم , ويتمسكون بكتابات متعصبة لكتبة ليسوا من بني جلدتنا , ولكنهم من الذين حملوا الحقد الغربي الصليبي على ثروات العرب والمسلمين , كالمدعو ألفريد بتلر , فنشروا ثقافة الحقد والكراهية للإسلام والعرب في شتى محافلهم , ونقل عنهم حقدهم وكرههم , ثلة من المتعصبين , من النصارى العرب , كالقمص أنطونيوس الأنطونى صاحب كتاب " وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها " .
وقد نقل الأخير عن ألفريد بتلر في كتابه " الفتح العربي لمصر " الجزء الخاص بفتح مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه , وأول ما يتوقف أمامه قاريء كتاب ألفريد بتلر ذلك العنوان المتعصب " فتح العرب لمصر" لأنه لا يعبر عن الحقيقة , ففتح مصر لم يكن إنجازًا عربيًا ، وإنما كان إنجازًا إسلاميًا حول مجرى التاريخ , وليت شعري إذا كان الفتح عربيًا , فلماذا أخذ عمرو بن العاص من النصارى الجزية ودعاهم قبل أن يأخذها منهم إلى الإسلام والإيمان برسالته ؟!
بل لقد قال بتلر في كتابه ص 228 : ( سار عمرو فى جيش صغير من أربعة ألاف جندى (4000) أكثرهم من قبيلة عك , وإن الكندى يقول أن الثلث كانوا من قبيلة غامق , ويروى أبن دقماق : أنه كان مع جيش العرب جماعة من أسلم من الروم ومن أسلم من الفرس , وقد سماهم فى كتابه , وسار بهم من عند الحدود بين مصر وفلسطين حتى صار عند رفح وهى على مرحلة واحدة من العريش بأرض مصر ) .
وهذا الذي أثبته بتلر يؤكد أن الفتح كان إسلاميًا ولم يكن عربيًا بالمعنى العرقي , بل فتح ينطلق من أساس " عقائدي " ، وليس من أساس " عرقي" ، ولم يكن الفاتحون مجرد قبائل عربية من بدو الصحراء كما يردد الجهلة , بل كلهم مسلمون من بلاد وأمم متفرقة , جمعتهم العقيدة الربانية الصافية , لتخليص العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد , وإخراجهم من ظلمات الجهل والإضطهاد إلى نور العلم والسماحة والعدل !
وعن ترحيب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر يقول بتلر في تعصب صريح : ( وأنه لمن الجدير بالإلتفات أن هذا البطريرك الطريد- يقصد بنيامين - لم يحمله على الخروج من أختفائه فتح المسلمين لمصر وإستقرار أمرهم فى البلاد , ولا خروج جيوش الروم عنها , وليس أدل من هذا على إفتراء التاريخ على القبط , وإتهامهم كذباً أنهم ساعدوا العرب ورحبوا بهم ورأوا فيهم الخلاص , مع أنهم أعداء بلادهم , ولو صح أن القبط رحبوا بالعرب لكان ذلك عن أمر بطريقهم أو رضائه , ولو رضى بنيامين بمثل هذه المساعدة وأقرها لما بقى فى منفاه ثلاث سنوات بعد تمام النصر للعرب , ثم لا يعود بعد ذلك من مخبئة إلا بعهد وأمان لا شرط فيه ) ( الفتح العربي لمصر ص 457 ) .
كلمات يتقطر منها الحقد والكراهية قطرًا قطرًا , رافضة ما جاء في أعظم كتب التاريخ عند النصارى أنفسهم , والثمن هو شحن النفوس التي هى للتعصب أقرب وعن الإنصاف أبعد !
يقول ألفريد بتلر : " وأنه لمن الجدير بالإلتفات أن هذا البطريرك الطريد- يقصد بنيامين - لم يحمله على الخروج من أختفائة فتح المسلمين لمصر وإستقرار أمرهم فى البلاد " . لقد أبى الله إلا أن يذل من عصاه , إذ ذكر ألفريد بتلر في كتابه المذكور , عهد الأمان الذي كتبه عمرو بن العاص للبابا بنيامين : ( كتب عمرو بن العاص للبابا بنيامين وكان البابا مختفيًا فى مكان مجهول لا يعلم به أحد , وكانت صورة الوعد كما يلى : " أينما كان بطريق القبط بنيامين , نعده الحماية والأمان , وعهد الله , فليأت البطريرك إلى هنا فى أمان وإطمئنان ليلى أمر ديانته ويرعى أهل ملته " ) ( الفتح العربي لمصر ص 455 ) .
فكيف يذكر بتلر أن البابا بنيامين لم يخرج من مخبئه بسبب عهد الأمان , وقد ذكر هو بنفسه عهد الأمان , وفيه طلب خروج البابا بنيامين ليتولى أمر ديانته , فما الذي أخرجه إذًا يا بتلر؟! ولماذا لم يخرج في أي وقت طيلة الثلاثة عشر عامًا ؟!
لقد أصدر عمرو بن العاص عهد الأمان فور استقرار البلاد على حكم الإسلام , وانتهاء فترة النزاع بينه وبين الروم الكاثوليك , وقد نطق ألفريد بتلر بذكر هذه النزاعات في مؤلفه , والأنبا بنيامين انتظر أيضًا حتى يستتب الأمر لأي من الفريقين , فيقرر بعده ما يري , فمن الطبيعي والمنطقي أن الأنبا بنيامين كان يجول في فكره أنه ربما استبدل القدر المعتدي بمعتدي أخر , لذلك ظل طيلة هذه السنوات الثلاثة , التي جاهد فيها عمرو بن العاص رض الله عنه حتى صارت كلمة الله هي العليا في البلاد , يراقب ويتابع الأحداث عن بعد ليرى لمن ستكون الغلبة في النهاية , فلما استقر الأمر للمسلمين , وعلم عدل الإسلام وسماحته بالأعداء الكاثوليك إذ تركهم ينسحبوا حاملين أمتعتهم وأموالهم , ورأى عهد الأمان له ولأتباعه , خرج من فوره من مخبئه , ونتحدى أن يثبت لنا بتلر أو غيره من أي مصدر تاريخي غير ذلك , بل هو الزعم والأماني ! ونتحدى أن يثبت لنا بتلر أو غيره من أي مصدر تاريخي أن عمرو بن العاص خان عهده مع الأنبا بنيامين , بل لقد أثبتنا أن الأقباط هم أول من أخلفوا العهود وأرادوا زعزعة أمن البلاد بعد استقراره .
شهادة يوحنا النقيوسي !
في أقدم كتب التاريخ النصرانية حديث عن سماحة عمرو بن العاص رضي الله عنه مع نصارى مصر ، وكيف أن تحرير الإسلام لهم من قهر الرومان ، وهزيمة الاستعمار الروماني بمصر على يد الجيش الإسلامي الفاتح إنما كان انتقامًا إلهيًّا من ظلم الرومان لمصر واضطهادهم لنصارى مصر !
ففي تاريخ "يوحنا النقيوسي" أسقف نقيوس ( إبشاتي بالمنوفية ) , وأحد أعظم رجال الكنيسة القبطية في القرن السابع , وهو معاصر للفتح الإسلامي وشاهد عليه : ( إن الله الذي يصون الحق لم يهمل العالم ، وحكم على الظالمين ، ولم يرحمهم لتجرّئهم عليه ، وردهم إلى يد الإسماعيليين (العرب المسلمين) ثم نهض المسلمون وحازوا كل مدينة مصر.. وكان هرقل حزينًا.. وبسبب هزيمة الروم الذين كانوا في مدينة مصر ، وبأمر الله الذي يأخذ أرواح حكّامهم مرض هرقل ومات.. وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقوى كل يوم في عمله ، ويأخذ الضرائب التي حددها ، ولم يأخذ شيئًا من مال الكنائس ، ولم يرتكب شيئًا ما، سلبًا أو نهبًا، وحافَظ عليها (الكنائس) طوال الأيام ) ( تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي ص 201-202 : رؤية قبطية للفتح الإسلامي, ترجمة وتحقيق د. عمر صابر عبد الجليل , الطبعة الأولى 2000م , القاهرة - عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ) .
إنها شهادة شاهد عيان نصراني على هذه السماحة الإسلامية التي تجسدت على أرض الواقع . ومتى؟! قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان ، وهي سماحة نابعة من الدين الإسلامي ، وليست كحقوق المواطنة التي لم تعرفها المجتمعات العلمانية إلا على أنقاض الدين !
شهادة ساويرس بن المقفع !
لقد أكد الدكتور نبيل لوقا بباوي ترحيب الأقباط بالفتح الإسلامي لمصر ناقلاً عن أعظم رجال النصارى في القرن العاشر , وهو ساويرس بن المقفع صاحب " تاريخ البطاركة " , ما يثبت أن النصارى رحبوا بالفتح الإسلامي لمصر , يقول الدكتور نبيل لوقا : ( ويذكر ساويرس – بن المقفع – في كتابه " سير الأباء البطاركة " وهو أحد الكتاب المسيحيين المعروفين : " أنه كان من نتائج عودة الأنبا بنيامين إلى كرسي البطريركية أن رجع كثير من المصريين إلى المذهب الأرثوذكسي بعد أن كانوا قد نبذوه نتيجة لإضطهاد هرقل قيصر الروم , وبعد أن تم لبنيامين لم شمل قومه من القبط , اتجه إلى بناء ما كان هرقل قد هدمه من الكنائس والأديرة , أي أن المذهب الأرثوذكسي بدأ يستعيد مكانته في ظل الحكم العربي ولا عجب إذا عم السرور والفرح على أهل مصر جميعًا " ) ( انتشار الإسلام ص 162-163 ) .
ويقول الدكتور نبيل لوقا أيضًا : ( إن المسيحيين في مصر تلقوا أشكال العذاب بكل أنواعه على يد الدولة الرومانية ولم تضع الدولة البيزنطية أمامهم إلا خيارين , الخيار الأول هو عبادة الأوثان أي عبادة الإمبراطور , والخيار الثاني هو القتل , وبعد أن أصبحت الديانة المسيحية هى الديانة الرسمية للدولة البيزنطية وضعوا المسيحيين في مصر أمام خيارين اثنين , الخيار الأول القتل , والخيار الثاني هو ترك عقائدهم الأرثوذكسية في الديانة المسيحية , واتباع العقائد الكاثوليكية التي يرفضونها واستشهدوا في كل العصور من أجل عقائدهم الأرثوذكسية , لذلك حينما أتى عمرو بن العاص وعرض تخليصهم من عذابهم على أن يدفعوا الجزية أو ضريبة الدفاع مقابل الدفاع عنهم وتخليصهم من ظلمة الدولة الرومانية على أن يباشروا عقائدهم الدينية بحرية تامة حسب معتقداتهم الدينية في طبيعة السيد المسيح رحبوا بذلك ) ( انتشار الإسلام ص 159 ) .
وعن مساعدة الأقباط الأرثوذكس للمسلمين كدليل على رغبتهم في هزيمة الكاثوليك , فهذا ما أكده الكاثوليك أنفسهم كما ذكرنا , وفي هذا يقول الدكتور نبيل لوقا بباوي : ( بعد ذلك الإستعراض التاريخي من واقع أمهات الكتب المسيحية لا يستطيع أحد أن يؤيد ما يقوله المستشرقون بأن الإسلام انتشر بحد السيف في مصر بل بالحقيقة أن أهل البلاد من الأقباط الأرثوذكس في مصر كانت لديهم رغبة قوية في هزيمة الجيوش البيزنطية الرومانية , لذلك قام الأقباط الأرثوذكس بإرشاد قوات عمرو بن العاص في كل تجولاتها في مصر لتخلصهم من حمامات الدم والمقابر الجماعية التي كان ينصبها الجنود الرومان للأقباط الأرثوذكس في مصر والشام ) ( المصدر السابق ص 158 ) .
وأنقل هذا النص ، ليس من كتاب ألفريد بتلر ، إنما أنقله على لسان الراهب أنطونيوس الأنطوني في كتابه " وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها " نقلاً عن ألفريد بتلر ، ليستشهد به – أي الراهب أنطونيوس - على أن الله سبحانه وتعالى شاء لنصارى مصر ، أن يكون إنقاذهم من الفناء والهلاك والعدم ، على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص ، فيقول الراهب (ص64) : ( إن بنيامين سَعِدَ كثيرًا بعمرو ، كما رحب عمرو ببنيامين ، وطلب عمرو بن العاص من بنيامين أن يدعو له حتى يمضي ليحرر أرض ليبيا هي الأخرى من ظلم الرومان الصليبيين ، فدعا له البابا بنيامين ، وقال له كلامًا طيبًا أعجبه والحاضرين ، ثم انصرف مكرمًًا مبجلاً ) .
ويستطرد أنطونيوس قائلاً (ص65) : ( كل ذلك حدا بالمؤرخ بتلر أن يقول : "ولقد كان لعودة بنيامين أثر عظيم في حل عقدة مذهب القبط وتفريج كربهم ، إن لم تكن عودته قد تداركت تلك الملة (الأرثوذكسية) قبل الضياع والهلاك" ) .
فدع عنك أيها القاريء النصراني المنصف حقد المستشرقين , ومن ردد أقوالهم من المتعصبين , فهم لا يريدون إلا الفتنة , وقد كانوا دائمًا قارعي طبول الحروب الصليبية على العالم الإسلامي حتى يومنا هذا , فهم كتبوا مؤلفاتهم وقلوبهم المريضة ونفوسهم الحاقدة تدفعهم لمزيد من الكراهية بإسم الصليب , وبإسم الإضطهاد المزعوم , لكن الله أنطقهم بالحق , ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه !
شهادة المتعصبين !
(( نقلاً عن مقال للأستاذ الصحفي / أبو إسلام أحمد عبد الله ))
سوف أعتمد ثلاثة مصادر فقط على سبيل الإسترشاد والإستشهاد , واعلم عزيزي القاريء أن أصحاب هذه المصادر التاريخية القادم ذكرها وذكر شهاداتها ، هم من أشد المتعصبين ضد الإسلام , وهم :
المصدر الأول هو : الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني في كتابة (وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها) ، المطبوع بدار الطباعة القومية – القاهرة ، ويحمل رقم إيداع 9836/95 ، والصادر في 30 يناير 1996 بحسب مقدمة المؤلف ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث ، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وسائر بلاد المهجر) ، وعلى ما يبدوا أن هذا الكتاب الضخم طبع ونشر على نفقة دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر .
المصدر الثاني هو : مرجع أساسي في الدراسات الكنسية للقس منسي يوحنا ، في كتابه (تاريخ الكنيسة القبطية) ، إصدار مكتبة المحبة بالقاهرة ، عام 1983 بحسب رقم الإيداع ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) ، وهو لا يقل حقداً وكراهية للإسلام والمسلمين عن سابقه .
أما المصدر الثالث هو : القمص تادرس يعقوب ملطي ، في كتابه (الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والروحانية) الصادر بدون تاريخ عن كنيستي الإسكندرية بمصر وسانت ماري بكندا ، وتتصدر صفحته الأولى صورة مكتوب أسفلها (قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث) وكأنها صك الاعتماد المقدس لكل واحد من هذه المصادر .
فماذا يقول هؤلاء الكنسيين عن فتح مصر وعن عمرو بن العاص ، برغم ما هم عليه من تعصب وكره وحقد وغل مقيت ؟!
المصدر الأول : يقول الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني (ص 62) : (وإن كنا نذكر مظالم العرب الفاتحين فلابد – إنصافاً للحقيقة – أن نقول أن هذه المظالم لم تكن عامة أو شاملة خاصة في الفترة الأولى للفتح العربي، فقد اكتشف البروفسور جروهمان وثيقتين برديتين يرجع تاريخهما إلى سنة 22 هـ- 642م ، مكتوبتين باليونانية ، وملحق بهما نص آخر بالعربية :
الوثيقة الأولى: إيصال حرره على نفسه أحد أمراء الجند يدعى الأمير عبد الله بأنه استلم خمساً وستين نعجة لإطعام الجند الذين معه، وقد حررها الشماس يوحنا مسجل العقود ، في اليوم الثلاثين من شهر برمودة من السنة المذكورة أولاً ، وقد جاء بظهر الورقة ما يلي : "شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد وهذا خصماً عن جزية التوقيت الأول" .
أما الوثيقة الثانية: فنصها : "باسم الله ، أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة بسوفتس ، وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع ، لفرقة القوطة ، علفاً بثلاث دراهم كل واحد منها (بعرورتين) وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف" .
ويعلق الأستاذ جروهمان على الوثيقتين بقوله : "إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب ، قلما نراها من شعب منتصر" .
ثم يستطرد الراهب القمص قائلاً (ص 64) : " كان البابا بنيامين (البطريرك الـ 38) هارباً من قيرس (المقوقس) البطريرك الملكاني ، وبعد الهزيمة التي مني بها الروم ورحيل جيشهم عن مصر ، غدا القبط في مأمن من الخوف ، وبدأوا يشعرون بالحرية الدينية ، ولما علم عمرو باختفاء البابا القبطي بنيامين ، كتب كتاب أمان للبابا بنيامين يقول فيه : "الموضع الذي فيه بنيامين بطريرك النصارى القبط ، له العهد والأمان والسلامة من الله ، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته" ، كما يقول : "أن عمرو وهو في طريق عودته بعد فتح الإسكندرية ، خرج للقائه رهبان وادي النطرون، فلما رأى "طاعتهم" سلمهم كتاب الأمان للبابا ، فلم يلبث عهد الأمان أن بلغ بنيامين ، إلا وخرج من مخبئه وعاد إلى الإسكندرية بعد أن ظل غائباً ثلاثة عشر عاماً " .
المصدر الثاني : أما القس منسي يوحنا ، فقال كلاماً غير مسبوق في أي مصدر من المصادر الإسلامية ، فقال (ص 306) : "وكان جيش العرب في فاتحة هذا القرن ، حاملاً لواء الظفر في كل مكان ، وظل يخترق الهضاب والبطاح ، ويجوب الفيافي والبلاد ، حتى وصل إلى حدود مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ، فدخل مدينة العريش وذلك سنة 639 م ، ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر ، ولما استولى عليها وجد بها "أرمانوسة" بنت المقوقس [على رأس جيش صليبي محارب] فلم يمسها بأذى ، ولم يتعرض لها بشرِّ ، بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف ، مكرمة الجانب ، معززة الخاطر ، فَعَدَّ المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها حسنة له" .
ثم يستطرد القس منسي يوحنا قائلاً (ص 307) : "فجمع المقوقس رجال حكومته ، وذهب للتفاوض مع رسل من قِبَل عمرو . فبدأ وفد الروم بالتهديد والوعيد للمسلمين ، بقتلهم وإفنائهم وأنه لا بديل أمام المسلمين غير الموت أو الرحيل ، فلما بدأ وفد المسلمين ، فلم يفعل كوفد أهل الصليب إنما طرح أمامهم ثلاثة بدائل : أولها الإسلام وثانيها الاستسلام مع دفع الجزية لقاء قيام المسلمين بتسيير أمور البلاد ، ثم كان الخيار الثالث والأخير وهو الحرب والقتال الذي طرحة جيش الصليبيين الروم المحتلين لمصر كاختيار لا بديل .
فاتفق رأيهم على إيثار الاستسلام والجزية ، واجتمع عمرو والمقوقس وتقرر الصلح بينهما بوثيقة مفادها : أن يُعطَي الأمان للأقباط ، ولمن أراد البقاء بمصر من الروم ، على أنفسهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وفي نظير ذلك يدفع كل قبطي "دينارين" ماعدا : الشيخ ، والولد البالغ 13 سنة ، والمرأة" .
ويضيف القس منسي يوحنا : "وذكر المؤرخون أنه بعد استتباب السلطان للعرب في مصر ، وبينما كان الفاتح العربي يشتغل في تدبير مصالحه بالإسكندرية ، سمع رهبان وادي النطرون وبرية شيهات ، أن أمة جديدة ملكت البلاد ، فسار منهم إلى عمرو سبعون آلفاً [يصفهم القس منسي يوحنا في دقة شديدة قائلاً] حفاة الأقدام ، بثياب ممزقة ، يحمل كل واحد منهم عكاز ... تقدموا إليه ، وطلبوا منه أن يمنحهم حريتهم الدينية ، ويأمر برجوع بطريركهم من منفاه ، [وعلى الفور ، وبورع الأتقياء ، وتواضع المنتصرين المحكومين بشرع الله] أجاب عمرو طلبهم ، وأظهر ميله نحوهم فازداد هؤلاء ثقة به ومالوا إليه" .
ولم يكتف القس منسي بذلك كله ، فيقول القس منسي ما يجعل المسلم منبهراً بما قال: "خصوصاً لما رأوه يفتح لهم الصدور ، ويبيح لهم إقامة الكنائس والمعابد ، في وسط [منطقة] الفسطاط التي جعلها عاصمة الديار المصرية ومركز الإمارة ، على حين أنه لم يكن للمسلمين [إلى هذا الوقت] معبد ، فكانوا يصلون ويخطبون في الخلاء" .
أما عن موقف نصارى مصر من عمرو بن العاص ، فيقول القس (ص209) : "أنه قَرَّب إليه الأقباط ، وردّ إليهم جميع كنائسهم التي اغتصبها الرومان" .
المصدر الثالث : فإذا ما أتينا إلى القمص تادرس يعقوب ملطي ، فنجدة يقول (ص 77) : "وسط هذا الجو المتوتر ، حيث كان قيرس لا عمل له سوى متابعة الأساقفة والكهنة والرهبان ، حتى في البراري ، بحملة عسكرية يعذب ويقتل ، وصل الزحف العربي إلى مصر تحت قيادة عمرو بن العاص ... ثم انطلق العرب نحو الإسكندرية (ص79) : إذ فقدت البلاد وحدتها ، وحُرِمَ الولاة المعينون من قبل الإمبراطور من كل خبرة عسكرية ، لا همَّ لهم سوى جمع الضرائب ومقاومة الكنيسة ، لم يفكر أحدهم في مساعدة أخيه ، إذ تفشى فيهم روح عدم المبالاة" ، هذا ويرى المستشرق الفرد بتلر : "أنه من الخطأ أن يُدَّعَى أن الأقباط كان في استطاعتهم في ذلك الوقت أن يجتمعوا أو يفاوضوا العرب" .
ثم يستطرد القس الملطي ، فيقول تحت عنوان (عودة البابا بنيامين) : "وإذ استتب الأمر دار النقاش بينه وبين الأقباط حول عودة البابا وأساقفته ، ولم يطلب عمرو من المصريين سوى الجزية ، بعد إلغاء الضرائب البيزنطية الفادحة [وكانت أربعة وعشرون نوعاً من الضرائب] وكان معتدلاً في المبلغ الذي يطلبه .... هذا وقد ترك للمصريين حرية العبادة ، وحرية التصرف في الأمور القضائية والإدارية ، بل وعيَّن بعضاً من الأقباط مديرين في جهات كثيرة" .
شهادة "د/ عزيز سوريال عطية"
أحد أعضاء المجلس الملي
توفي « عزيز سوريال عطية » عام 1988م . كان أستاذًا في التاريخ بجامعة الإسكندرية، وأحد أعضاء المجلس الملي، ومديرًا لمعهد الدراسات القبطية.
الرجل من علماء الأقباط إذن ، ولا يُنتظر منه محاباة المسلمين بحال .
أضف إلى هذا أن الكتابين اللذين سننقل منهما الاقتباسات ، ألفهما "د/ عزيز" بالإنجليزية ، فهو لا يخاطب مسلمي مصر ابتداء ولا غيرهم . وعليه ، فيُمتنع أيضًا محاباته لهم .
الكتاب الأول :
الحروب الصليبية وتأثيرها على العلاقات بين الشرق والغرب ، للدكتور عزيز سوريال عطية ، ترجمة الدكتور فيليب صابر سيف ، ط2 ، دار الثقافة بالقاهرة .
ص 19 :
(( وقد تم فتح مصر بسهولة نظرًا لعدم اشتراك السكان الأقباط في المعركة المرتقبة . فطالما عذب الحكام البيزنطيون المصريين أبناء النيل ... ومن الناحية الأخرى نجد أن سماحة العرب تجلت في الوعد بترك حرية دينية أوسع مدى ، مع فرض جزية أقل مما كان يحصله البيزنطيون ))
ص 27 :
(( وعندما كتب ثيودسيوس بطريرك بيت المقدس إلى اغناطيوس بطريرك القسطنطينية عام 869 قال إن العرب المسلمين عادلون وأنهم لا يضايقون المسيحيين بأية طريقة من الطرق .
والواقع أن قصة التسامح في صدر الإسلام ، وكذلك على عهد الخلفاء الأولين ، لم تكتب بعد بكل تفاصيلها . بل أكثر من ذلك ، تعتبر صفة مميزة . ولكن مؤرخي الغرب اختلفوا فيها أو أهملوها .
ومع أن هناك فترات متباعدة حدثت فيها اضطهادات ، فإنه يجب أن يكون واضحًا أن هذه الاضطهادات اقترنت بأهواء شخصية لبعض الخلفاء مثلما حدث من الخليفة الحاكم (996-1020) الذي يوصف أحيانًا باسم "نيرون مصر" وذلك بسبب قسوته على المسيحيين وتدميره للقبر المقدس عام 1009 . ولكن "الحاكم" كان مجنونًا . فقد أساء إلى المسلمين أيضًا . وكانت نهايته مظلمة غامضة . فقد قيل إنه قتل في صحراء حلوان وتولى خدمه قتله . وهناك رواية أخرى - لم تثبت صحتها بعد - تقول إنه اعتزل متخفيًا في دير قبطي مهجور حيث كفر عن بشاعة أعماله .
وإذا نظرنا إلى الغرب ، وجدنا أن الإسلام فيه لم يقل تسامحًا . فقد دهش الأسبان عندما استعادوا طليطلة ، وكذلك النورمانديون عندما استعادوا صقلية ، لأنهم وجدوا الكنائس المسيحية لم يسمها سوء ، كما وجدوا رجال الدين المسيحي يقومون بالشعائر الدينية دون تدخل أو إزعاج . بل إن تعاون العلماء المسلمين والمسيحيين واليهود في أيبيريا [أسبانيا والبرتغال الآن] ساعد على إبراز عصر النهضة في القرن الثاني عشر )) .
الكتاب الثاني :
تاريخ المسيحية الشرقية ، تأليف عزيز سوريال عطية ، ترجمة إسحاق عبيد ، المجلس الأعلى للثقافة 2005 م
ص 14:
(( ولا بد لنا أن نعترف في هذا المقام ، وأنا في الأساس من زمرة المؤرخين ، أنني أيضًا عضو في الكنيسة القبطية بحكم مولدي وتنشئتي . ولذا فليس غريبًا أن يستشعر القارئ حنوًا من جانبنا يشي بعبق وتراث الكنائس الشرقية ))
قلت (متعلم) : أحببت البدء بهذا الاقتباس ، حتى لا يتهوك متهوك بأن الرجل كان يحابي المسلمين . وهذا فضلاً عما قلناه سابقـًا في بداية المشاركة .
ص 104 :
(( أما العرب ، فقد أتوا لتحرير القبط من هذه الأغلال البيزنطية ، إذ كان موقفهم من "أهل الكتاب" أو "أهل الذمة" موقفًا كريمًا وسمحًا ، تأكدت فحواه من واقع "العهد العمري" الذي كفل للأقباط حريتهم الدينية بشكل لم ينعموا به أبدًا تحت النير البيزنطي . ولقد اتضح هذا الموقف العربي الكريم بعد أن استقر الحكم العربي في مصر ، فلقد خرج البطريرك الشريد "بنيامين" من مخبئه في الصحاري لمدة عشر سنوات ، واستقبله القائد عمرو بن العاص باحترام شديد ، ثم أعاده إلى منصبه في الإسكندرية معززًا مكرمًا ليرعى شئون كنيسته . وأصدر البطريرك بنيامين قرارًا بالعفو عن ذلك النفر من الأقباط الذين كانوا قد أجبروا على اعتناق مذهب "الإرادة الواحدة" ، كما أعاد إعمار الكثير من الكنائس والأديرة .
وقد شهد عصر "بنيامين" ومن تلاه من بطاركة في ظل الفتح العربي نهضة لم يسبق لها مثيل من شعور ديني قومي ، وانتعاش في الفنون والآداب ، في مناخ حر تمامًا ، لا تنغصه المؤثرات والضغوط البيزنطية .
كذلك عهد العرب إلى الأقباط بالمناصب الحكومية التي كان يحتلها البيزنطيون .
والحق أن العرب قد أبدوا تسامحًا كريمًا مع جميع الطوائف المسيحية على مختلف انتمائاتها : من منافزة ، من أتباع "الإرادة الواحدة" ، وغيرهم .
كذلك أبقى العرب على بعض الموظفين الهامين من بقايا البيزنطيين من أمثال "مينا" حاكم الفيوم .
ويعتقد "ألفرد بتلر" - مؤرخ الفتح العربي الشهير - أن هؤلاء الثلاثة قد اعتنقوا الإسلام ، ويرجح أيضًا أن سيروس نفسه قد اعتنق الإسلام سرًا ))
ص 105 :
يحكي "د/ عزيز" عن ضريبة جمعها "عبد الله بن سعد بن ابي السرح" رضي الله عنه :
(( ولقد أدى ثقل هذه الضريبة إلى تذمر بين أهل مصر ، بلغ أشده سنة 829/830م بين البشموريين في أحراش الدلتا ، وقد تم القضاء على هذه الثورة ، كما لجأ بعض أفرادها إلى بلاد الشام . على أن هذا لا يعني عدم رضا الأقباط عن الفتح العربي ؛ إذ أن الشعور العام كان يعبر عن الارتياح ، فالعرب هم الذين أزاحوا كابوس البيزنطيين عن صدور الأقباط )) .
ص 106 :
(( ولكي تعدد المكاسب التي جناها الأقباط من الفتح العربي ، لا بد وأن نذكر في المقام الأول تحريرهم من العنت والاضطهاد الديني من جانب السلطات البيزنطية وبطاركتها . كذلك تمكن الأقباط من ضم الكثير من الكنائس الملكانية ومؤسسات دينية أخرى إلى الكنيسة القبطية بعد ان تركها البيزنطيون . وفي الإدارة المحلية ، صارت الوظائف شبه حكر على الأقباط دون غيرهم ، فمنهم الكتبة وجامعو الضرائب والقضاة المحليون ، كما أن الثقافة القبطية شهدت انتعاشًا هائلاً بعد أن رحل البيزنطيون عن البلاد )) .
ص 106 :
(( ولم تكن بعض المشكلات التي واجهها الأقباط نتيجة لسياسة عامة ، وإنما كانت ترجع إلى تصرف فردي من جانب بعض الولاة ، ولا ينكر أحد أن الأقباط قد نعموا بأشياء لم يكونوا يحلمون بها من قبل تحت قبضة البيزنطيين . أما الحالات الاستثنائية من الضيق ، من قبيل ما حدث على عهد الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" مثلاً ، فإنما مرجعه شخص "الحاكم" نفسه ، الذي كان متقلب الطبع والمزاج مع الجميع دون استثناء . ومجمل القول أن الأقباط تحت مظلة الحكم العربي قد حافظوا على تراث أجدادهم ، كما نظر إليهم الحكام العرب وجيرانهم المسلمون بكل تقدير واحترام . ومن ناحية أخرى اندمج الأقباط لعنصر إيجابي فعال في جسم الأمة العربية الإسلامية ، دون أن يفقدوا هويتهم الدينية أو تراثهم العريق )) .
ص 107 :
(( ولقد تمرد المصريون بسبب ثقل الضرائب على كواهلهم ، لأن دخولهم كانت متدهورة ، فثاروا خمس مرات ما بين أعوام 739 و 773م . ولم تكن هذه الثورات من جانب الأقباط وحدهم ، وإنما شارك فيها إخوانهم المسلمون أيضًا الذين تعرضوا للمعاناة الاقتصادية نفسها . ولعل أكبر هذه الثورات الشعبية كانت ثورة البشموريين سنة 831م أثناء خلافة المأمون ))
ص 114 :
(( أما بالنسبة للأقباط ، فقد كانت الحملات الصليبية تمثل أشد الكوارث هولاً على المجتمعات المسيحية الشرقية . فقبل هجمة هؤلاء الفرنجة على الأراضي المقدسة ، كان المسيحيون الشرقيون في الدولة الإسلامية يمثلون جزءًا فاعلاً ومنسجمًا في المجتمع ، مع الحفاظ على خصوصيتهم الدينية . وقد كسب المسيحيون احترام الجميع بما في ذلك الخلفاء أنفسهم ، كما أن الكثيرين منهم قد شغلوا مناصب هامة في الإدارة من كتبة وجامعي ضرائب ومشرفين على خزانة الخلافة نفسها . وكان هؤلاء الموظفون المسيحيون محل تقدير الحكام وثقتهم . ولكن الحملات الصليبية التي هجمت على العالم الإسلامي - حاملة علامة الصليب - قد ولدت كراهية مريرة في نفوس الناس ضد علاقة الصليب التي ارتبطت هنا بالإثم والعدوان . وهكذا جرت الصليبيات البلاء الكثير على المسيحيين الشرقيين . ومن ناحية أخرى ، نظر الصليبيون اللاجئين وهم من أتباع الكنيسة الرومانية إلى المسيحيين الشرقيين من منافزة وغيرهم على أنهم "انفصاليون" وأشد سوءًا من الهراطقة ، يستوي في ذلك - عندهم - القبطي واليعقوبي والأرميني ، فكلهم هراطقة . أما الطائفة الشرقية الوحيدة التي حظيت برضا هؤلاء الصليبيين فكانت جماعة الموارنة في لبنان ، الذين بادروا بإعلان تبعيتهم للكنيسة الرومانية . ولقد وضحت عداوة الصليبيين للطوائف المسيحية الشرقية ، عندما قاموا بمنعهم من الحج إلى القدس وكنيسة الضريح المقدس . وكان الأقباط حريصين طوال تاريخهم على القيام بهذا الحج إلى بيت المقدس ، ولذا فإن موقف الصليبيين العدائي هذا قد أصابهم بالأسى الشديد )) .
ص 117 :
(( ويُذكر أيضًا أن الأقباط في مدينة المنصور قد أبلوا بلاءً حسنًا في القتال مع إخوانهم المسلمين ضد حملة الملك الفرنسي "لويس التاسع" على مدينة المنصورة (1249-1250) . )) .
تذكير
إن "د/ عزيز سوريال" هذا هو الذي جلب "موسوعة الآباء الأولين" للأقباط ، عندما أهداها إلى "الأب متى المسكين" ، الذي كان قد بدأ التوجه إلى تأصيل دينه من "فكر الآباء الأولين" .. وبدأ الأقباط في التعرف على أقوال آبائهم الأولين من نصوصهم المباشرة .. ولا أدري كيف كانوا يؤصلون دينهم قبل هذا !
بالطبع ، حدثت ثورة في فكر "متى المسكين" وتابعه عليها كثيرون ، وكان ما كان بينه وبين "شنودة" وأتباعه الذين يصنفون "ماكس ميشيل" المنشق و"جورج حبيب بباوي" المتمرد أتباعـًا لمدرسة "متى المسكين" .
المهم ، أن كلا الفريقين ، والأقباط جميعـًا ، يدينون بالفضل ويقرون به للدكتور / عزيز سوريال ، الذي فتح أمامهم عالم الآباء الأولين .
لقد إعتمد د/ عزيز سوريال عطية في مؤلفاته العديدة عن الأقباط وتاريخهم وحضارتهم على مرجع أساسي وهام , وهو : " تاريخ الأمة القبطية " للمؤرخ الأرثوذكسي / يعقوب نخلة روفيلة , ويعد هذا الكتاب أول كتاب باللغة العربية يتناول تاريخ الأقباط معتمدًا في مادته على المخطوطات المحفوظة بالأديرة والكنائس القديمة , وهذا الكتاب هو ما سنتبع النقل عنه إن شاء الله .
وسنبدأ بشهادة المؤرخ / يعقوب نخلة روفيلة عن الفتح الإسلامي لمصر .
شهادة المؤرخ / يعقوب نخلة روفيلة
صاحب كتاب " تاريخ الأمة القبطية "
يعد كتاب " تاريخ الأمة القبطية " أول كتاب باللغة العربية تحدث عن تاريخ الأقباط معتمدًا في مادته على المخطوطات الموجودة بالأديرة والكنائس القديمة , وقد كتبه العلامة المؤرخ المسيحي / يعقوب نخلة روفيلة منذ أكثر من مائة عام , وتمت طباعته في " مطبعة التوفيق القبطية الأرثوذكسية " عام 1899م حسب ما جاء في في نهاية خاتمة مؤلف الكتاب , وسوف نعتمد في نقلنا عنه على طبعته الثانية .
وحسب القاريء على أهمية هذا الكتاب , هو إعتماد جميع الدارسين في مجال التاريخ القبطي عليه , وقد إستعان به المؤرخ الكبير / عزيز سوريال عطية في كتاباته العديدة حول تاريخ الأقباط وحضارتهم .
وسنستعرض من خلال هذا المرجع الهام , المراحل التي مر بها الأقباط في ظل الحكم الإسلامي بداية من الفتح الإسلامي لمصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه .
الأقباط تحت حكم الرومانيين والفتح الإسلامي لمصر !
يقول المؤرخ يعقوب روفيلة تحت عنوان " الأقباط تحت حكم الرومانيين " : ( ... وبقيت مصر في يد الفرس نحو عشر سنوات ساموا فيها المصريين الخسف والعذاب أشكالاً , واستمروا على ذلك إلى أن قام هرقل ملك الروم وقاتلهم , وهزمهم واسترجع البلاد من يدهم , ولكن لم ينل أقباط مصر مع الأسف من هذا التغيير خيرًا بخلاف ما كانوا يتوقعونه من أن الحوادث علمته والتجارب ربته , بل كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار فإن هرقل بعدما خلص البلاد من يد الفرس حول نظره إلى تنفيذ الغرض الأصلي الذي كان يسعى وراءه الملوك سلفاؤه , وهو توحيد العقيدة النصرانية , وجعلها واحدة في كل المملكة , ولما لم يجد منهم إلا الرفض والإباء , إلتجأ في تنفيذ غرضه هذا إلى القوة والشدة بحد السيف فقتل كثيرًا من السوريين والمصريين , وإستباح دماءهم وسلب أموالهم وعزل البابا بنيامين بطريرك الأقباط وعين بدله ممن على مذهبه ثم طلبه ( بنيامين ) ليقتله فهرب واختفى من وجهه في دير صغير بالصعيد , وبقي مختفيًا فيه إلى مجيء العرب واستيلائهم على مصر ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 34 -35 ) .
ثم يستطرد المؤرخ / يعقوب روفيلة قائلاً : ( وبينما كان الملك هرقل مهتمًا بتأييد مذهبه وتعذيب مخالفيه في سوريا ومصر , متشاغلاً بذلك عن إجراء ما فيه حفظ البلاد وصونها وراحة العباد وتنظيم أحوال المملكة ولـمّ شعثها , ظهرت الدولة العربية الإسلامية في شبه الجزيرة العربية أوائل الجيل السابع للميلاد , وكان ظهورها قاضيًا على مملكة الروم الشرقية بالويل والخراب ) ( المصدر السابق ص 37 ) .
ويحدثنا المؤرخ / يعقوب روفيلة عن عمرو بن العاص فيقول : ( وكان بين قواد جنود العرب رجل يسمى عمرو بن العاص , اشتهر بالبسالة والشجاعة وإصابة الرأي وحسن التدبير , وجاء في بعض الروايات أنه كان قبل الإسلام يتعاطى التجارة فجاء إلى مصر غير مرة ورأى بالعيان ما كانت عليه البلاد من سوء الحال وميل الأقباط للتخلص من نير الرومان الثقيل فأشار على الخليفة بفتح مصر ) ( المصدر السابق ص 38 ) .
ويستطرد المؤرخ يعقوب قائلاً : ( وصار عمرو يخترق الهضاب والبطاح ويجوب الفيافي والبلاد حتى وصل إلى مصر , فدخل مدينة العريش سنة 639للميلاد أي سنة 18 للهجرة ومنها وصل إلى بلبيس وفتحها بعد قتال طال أمده نحو شهر , ولما إستولى عليها وجد بها أرمانوسة بنت المقوقس , فلم يمسسها بأذى ولم يتعرض لها بشر , بل أرسلها إلى أبيها في مدينة منف مكرمة الجانب معززة الخاطر , فعد المقوقس هذه الفعلة جميلاً ومكرمة من عمرو وحسبها منه له ) ( المصدر السابق ص 39-40 ) .
ويخبرنا المؤرخ عن عهد الأمان للأرثوذكس قائلاً : ( ولما ثبت قدم العرب في مصر , شرع عمرو بن العاص في تطمين خواطر الأهلين واستمالة قلوبهم إليه واكتساب ثقتهم به وتقريب سراة القوم وعقلائهم منه وإجابة طلباتهم , وأول شيء فعله من هذا القبيل استدعاء بنيامين البطريرك الذي كان مختفيًا من أمام هرقل ملك الروم ... ولما حضر وذهب لمقابلتة ليشكره على هذا الصنيع أكرمه وأظهر له الولاء وأقسم له بالأمان على نفسه وعلى رعيته وعزل عمرو البطريرك الرومي الذي كان قد أقامه هرقل و ردّ بنيامينَ إلى مركزه الأصلي معززًا مكرمًا ) ( المصدر السابق ص 54- 55 ) .
ومن المهم للغاية أن يفهم أهلنا من نصارى مصر اليوم أن عمرو بن العاص لم يكن في حاجة إلى هذا التطمين ولا في حاجة لإكتساب ثقة أحد , لأنه ما فعل ذلك إلا بعد أن انتصر وأحكم قبضته على البلاد تمامًا , وإنما ذلك راجع إلى طبيعة العقيدة التي يؤمن بها عمرو وجنده , فهو داعية إلى الله وإن ارتدى زي الجند , وهو داعية إلى الإسلام وإن أمسك في يده اليسرى درعًا وفي اليمنى سيفًا !
وكان عمرو بن العاص قادرًا على أن يقضي على المسيحية في مصر قضاء نهائيًا , لولا أنه لو فعل ذلك لأقام عليه أمير المؤمنين الحد لما في دين المسلمين من تقديس لحرمة الدماء !
فعمرو بن العاص لم يكن في حاجة إلى نصارى مصر , وإن كان في حاجة إليهم فقد كان مستطيعًا أن يأمرهم بتلبية حاجته بالحال التي كان يأمرهم بها إخوانهم في الدين من الرومان والبيزنطيين .
ونقول في هدوء : ألم يكن قادرًا على التعامل معهم كعبيد محاربين ؟! ألم يكن قادرًا على التعامل مع الروم عليهم ؟! ألم يكن قادرًا على تقديم الروم في الحكم ومُـصالحـتهم ؟! ألم يكن يعرف أن نصارى الروم أكثر خبرة ومعرفة بأصول الحكم والحرب والقتال من نصارى مصر فيستخدمهم في الخلاص من نصارى مصر والإبقاء على ما كانت عليه الأحوال من قبل ؟!
ولنقرأ السطور التالية للمؤرخ يعقوب نخلة : ( كان عدد الروم في مصر ينوف عن ثلاثمائة ألف نفس , فهاجر أغلبهم , ولم يبق منهم إلا من كانت له علاقات ومصالح لا تسمح له بالخروج منها والإبتعاد عنها , وإنتهز القبط خروج الروم فرصة مناسبة فوضعوا يدهم على كثير من كنائسهم وأديرتهم وملحقاتها , بدعوى أنها كانت في الأصل مِـلكًا لهم وأن الروم نزعوها من يدهم قوة وإقتدارًا بسبب ما كان بينهم من الشقاق , ومن ذلك الحين عاش الروم والأقباط بالــحـُـسـنـى , وانتهت من بينهم النزاعات والمخاصمات , التي كانت تــُــفـضِـي إلى قتل الألوف المؤلفة لزوال أسبابها ) ( المصدر السابق ص 55-56 ) .
الأقباط في عهد الدولة الأموية !
يستطرد المؤرخ روفيلة في الحديث عن أخبار الأقباط إبان الفتن التي واجهها الصحابة رضوان الله عليهم وحتى الدولة الأموية فيقول : ( بينما كان الخلل مستوليًا والفشل سائدًا في كل أنحاء المملكة العربية بسبب هذه المنازعات , كان الأقباط في مصر ملازمين الهدوء والسكينة والحيادة , فلم يخطر على بالهم قط شق عصا الطاعة أو التخلص من غير العرب ... وفي الواقع أن القبط كانوا هم المسلطين في بلادهم وبيدهم كل شيء وعاشوا أمنين على أنفسهم ومالهم , ولم يكن للعرب سلطة عليهم إلا في تحصيل الخرج وجمع الجزية التي قاموا بدفعها عن طيب خاطر ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 62, 64 ) .
ثم ينتقل المؤرخ روفيلة إلى ولاية عبد العزيز بن مروان , إذ تحدث عن الزيادة في الجزية في عهده , وذلك لما رأى زيادة نفوذ النصارى في البلاد وإستيلائهم على ثرواتها كما يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وإذ كان القبط في ذلك الحين هم أهل البلاد وذوي الثروة والإقتدار على الأعمال وعليهم مدار العمران بخلاف العرب الذين كانوا معظمهم من الجند المحافظين على الأمن وسلامة البلد ) ( المصدر السابق ص 65 ) .
وبعد أن حكم عبد العزيز بن مروان البلاد أكثر من عشرين سنة وعمل خلال هذه الفترة على تحديث البلاد والنهوض بها – كما شهد المؤرخ روفيلة – فصارت أحسن ما يكون , تولى مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان , وهو أول من قام بتغيير اللغة الرسمية للبلاد من القبطية إلى العربية , فمصر صارت دولة إسلامية يحكمها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , واللذان ضمنا حرية العبادة والتدين للنصارى في مصر , كما أن عبد الله بن عبد الملك أراد أن يكون للمسلمين مشاركة في نهضة دولتهم , فكان من الطبيعي أن يقدم الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان على هذا الفعل , وهذا الأمر ليس بمستغرب , فعلى هذا جرت الأحداث في العديد من بلاد العالم كلما إستتب الأمر لأمة جديدة تريد أن تصنع حضارتها ومستقبلها , وفي هذا يقول المؤرخ روفيلة : ( وحينئذ كثر العرب في مصر وإنبثوا في أنحائها واتخذوا الزراعة كسبًا ومعاشًا لهم وعاشروا الأقباط وإختلطوا بهم فكان لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ) ( المصدر السابق ص 68 ) .
ثم ينتقل المؤرخ روفيلة للحديث عن زيادة الجزية وفرضها على الرهبان في عهد عبد الله بن عبد الملك , فينقل لنا رأي بعض المؤرخين المسيحيين أن تلك الزيادة كان سببها دخول الأقباط في الإسلام تخلصًا من دفع الجزية , فلما خشي الوالي من قلة الإيراد بسبب ذلك , زاد من مقدار الجزية وفرضها على الرهبان ببرية شيهات في الوجه البحري !
وهذا بالطبع من سخف العقول وعدم الإلمام بالحقائق التاريخية عن الدولة الأموية أنذاك , والتي كانت في أبهى عصورها , إذ لم تكن في حاجة لهذه الجزية أصلاً لإنعاش خزائنها , إلا أنها شريعة الله في أرضه ويجب تحكيمها , وقد أتحفنا المؤرخ روفيلة بشجاعته وإقدامه بذكر السبب الحقيقي وراء هذه الزيادة , فيقول في هامش كتابه ص 69 تعليقًا على هذا الرأي , ما ننقله بنصه وصورته :
وهكذا يتحفنا المؤرخ روفيلة بذكر حقيقة أثبتتها الأيام والأحداث , خاصة في عصرنا هذا , وهى أن بعض الرهبان والقساوسة يكنون في أنفسهم حقدًا على الإسلام وأهله , ويشجعون رعاياهم على إنتهاز أية فرصة لزعزعة أمن البلاد واستقراره .
وقد ذكر المؤرخ روفيلة تداعيات هذه الأحداث , والمنازعات التي حدثت بين متولي الخراج وبين النصارى , ونحن نعلم يقينًا أن السبب في ذلك هم هؤلاء القساوسة والرهبان وإثارتهم للفتنة بين أهل البلد الواحد , وقد ذكر العلامة المقريزي هذه المنازعات وتداعياتها . ( انظر القول الإبريزي ص 45 , والخطط 3/273 -274 ) .
ويتابع المؤرخ روفيلة سرد الأحداث ما بين سقيم الأخبار وصحيحها فيقول : ( وفي أثناء ذلك , توفي الخليفة هشام بن عبد الملك فأسف الجميع لموته ولا سيما النصارى , لأنه لم يميز في أحكامه بين مسلم ونصراني ويهودي , وكان يشدد على الولاة في جميع الولايات التابعة له بإنتهاج منهج العدل في أحكامهم وإنصاف المظلوم بصرف النظر عن الدين والجنسية ) ( المصدر السابق ص 74 ).
ورغم أن المنازعات التي حدثت بين الولاة والنصارى كانت في معظمها في عهد هشام بن عبد الملك إلا أن المؤرخ روفيلة شهد شهادة صريحة بعدل هشام بن عبد الملك مع اليهود والنصارى قبل المسلمين , وأعود فأقول : أن هذا هو الأصل في تعامل الحكام المسلمين مع رعاياهم من المسلمين وغيرهم من أهل ذمتهم , وأن ما يحدث من منازعات ومشاحنات إنما هو من فعل ثلة تريد الفتنة بين أهل البلد الواحد .
لقد كان مروان بن محمد بن الحكم , أخر خلفاء بني أمية , وفي أخر عهده ضعفت البلاد وعمت الفوضي , وقد ذكر المؤرخون المسلمون النبذ المطول حول هذه الأحداث والتي كانت فيها نهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية .
وكما تحدثنا من قبل , أن الأقباط تنعموا بالحرية والعدل في ظل أمرين ثابتين , وهما : إقامة الشريعة الإسلامية التي ضمنت حقوقهم وما لهم وما عليهم , وعدم الخروج على الدولة التي أقرت هذه الشريعة نهجًا لها وإلتزامهم بالعهد المبرم بينها وبينهم , وهكذا صار الأمر في نهاية الدولة الأموية ما بين نقيض هذين الأمرين , ما بين ولاة زاد ظلمهم على رعاياهم بوجه عام , وما بين تأمر الأقباط على زعزعة أمن البلاد واستقراره , والحق أن الأقباط كانوا في معظم الأحيان هم من جلبوا الظلم لأنفسهم بسبب أفعالهم وتأمرهم على الإسلام وأهله .
فعلى سبيل المثال , المؤرخ روفيلة ذكر في طي حديثه عن الأقباط في ظل الدولة الأموية , أن عبد الملك بن موسى بن نصير إضطهد الأقباط أنذاك , في حين أن العلامة المقريزي , والذي إعتمد على تاريخه أغلب الباحثين من النصارى – بل وحتى المؤرخ روفيلة - , ذكر أن الأقباط خالفوا العهد بمدينة رشيد , مما دعا مروان بن محمد وقف هذا الخروج القبطي على الدولة , وكان من أثار ذلك ما فعله عبد الملك بن موسى بن نصير أخر أمير ولي مصر في العهد الأموي .
فمن السبب فيما حدث من بلايا وإضطهادات على حد وصف المؤرخ روفيلة وغيره ؟!
هذا , وقد نقلنا شهادة المؤرخ روفيلة أن العديد من المؤرخين المسيحيين ذكروا تأمر القبط والروم على البلاد .
بل لقد ذكرت السيدة العنصرية المسيحية الإنجليزية " ا . ل بتشر " في كتابها " تاريخ الأمة القبطية وكنيستها " ( 4/ 2 ) أن هناك العديد من المؤرخين المسيحيين أقروا حقيقة أن الإضطهادات التي يزعمها الأقباط عبر التاريخ من زيادة الجزية وهدم الكنائس ... إلخ ، هم الذين جلبوها لأنفسهم بسبب أفعالهم - أي الأقباط - !
وفي خاتمة حديث المؤرخ روفيلة عن الأقباط في العهد الأموي , ذكر كلامًا قيمًا يثبت أن الإسلام وصلحاء المسلمين لا يرضون بأي ظلم يقع على أهلهم من الأقباط , فيقول المؤرخ روفيلة : ( ومن حسن الحظ أن علاقاتهم الشخصية – أي الأقباط - مع أفراد المسلمين المتوطنين بينهم لم تكن غير مرضية وأنَّا لم نر في التاريخ ما يدل على وجود تعصبات دينية , بل ربما وجد بين المسلمين من أنصفهم وذب عنهم , وقد إحتال الروم على أحد خلفاء هذه الدولة وحصلوا على أمر منه بإعادة ما كان لهم من الكنائس بمصر قصدًا في نزع إحدى الكنائس من يد الأقباط بدعوى أنها كانت في الأصل ملكًا لهم فأدى ما حصل بين الروم والقبط من النزاع إلى رفع المسألة لقاضي المسلمين للفصل فيها فلم يراع في الحكم غير الحق , وأثبت أن الكنيسة ملكًا للقبط حقًا , وحكم بعدم جواز نزعها من يدهم وإعطائها لمن لا حق لهم فيها ) ( المصدر السابق ص 81 ) .
وهكذا كان الرأي العام المسلم مع الحق والعدل , إنصافًا للمظلوم من أهل ذمتهم !
ونختم حال الأقباط في العصر الأموي بهذه السطور من كتاب " قصة الحضارة " لول ديورانت , يقول : ( لقد كان أهل الذمة المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرًا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء ضريبة عن كل شخص تختلف باختلاف دخله، وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير. ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان، والنساء، والذكور الذين هم دون البلوغ، والأَرِقَّاء، والشيوخ، والعَجَزة، والعُمي، والشديدو الفقر، وكان الذميون يعفون في نظير ذلك من الخدمة العسكرية، أو إن شئت فقل لا يُقبلون فيها، ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5 % من الدخل السنوي. ( الزكاة ليست على الدخل السنوي، بل على رأس المال النامي وما يدره من دخل ) . وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمعتون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم، وقضاتهم وقوانينهم ) ( قصة الحضارة ج 13 ص130- 131 ) .
الأقباط في عهد الدولة العباسية !
افتتح المؤرخ روفيلة هذا الفصل بخروج الأقباط على والي مصر برشيد وسخا وغيرهما لزعمه إستبداد الوالي أنذاك , فيقول روفيلة : ( لم تكن نوايا الخلفاء العباسيين لأقباط مصر غير حسنة , إلا أن بعد البلاد عن مركز الخلافة وعدم بقاء الولاة في مناصبهم جعلهم يستبدون ويعملون في الناس كيفما شاؤوا ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 81 -82 ) .
وهذا الزعم فيه مبالغة , فلقد علمنا على مر بحثنا , حال النصارى مع عمال الخراج , وخروجهم الدائم على نظام الدولة , ونحن لا ندعي العصمة للحكام وعمالهم , بل قد يحدث من قبلهم بعض الإستبداد والظلم بالفعل , لكن هذا لا يعطي الحق لأي جماعة لتخريب البلاد وزعزعة أمنه واستقراره دون سلوك الطرق الشرعية في التفاوض والتباحث .
ونتساءل : إذا كان الإستبداد الذي زعمه المؤرخ روفيلة قد طال الناس على مختلف أديانهم , فلماذا خرج الأقباط النصارى بالذات على الوالي وعمال خراجه ؟! لماذا تميل نفوس الأقباط دائمًا إلى الحلول العدائية بدلاً من الحلول السلمية ؟! لقد أثبت التاريخ – وقد بينًا أمثلة ذلك – أن الحكام والخلفاء على مر العصور كانوا يستجيبون لشكاوى الأقباط ومطالبهم , فلماذا يصدر هذا الخروج العدائي كلما ظهرت مشكلة عارضة ؟!
النصارى لا يفهمون أن عندهم ما يستطيعون أن يدندنوا حوله فيحصلوا على جميع حقوقهم كاملة , ألا وهو ضمان الإسلام لأهل ذمته , لكنهم وبسبب سوء نيتهم سرعان ما يخرجون على نظام دولتهم , فيحدث لهم ما لا تحمد عقباه !
يذكر المؤرخ روفيلة أثار هذا الخروج فيقول : ( فتمرد قبط رشيد وسخا وغيرهما , وجاهروا بالعصيان , فأرسل لهم الوالي عساكر فقاموا عليهم وقاتلوهم وهزموهم وردوهم على أعقابهم خاسرين ) ( المصدر السابق ص 82 ) .
ولما علم الوالي أنذاك وهو " يزيد بن حاتم بن قبيصه " بهزيمة عسكره , إشتد غضبًا على النصارى فأراد هدم كنائسهم إنتقامًا منهم , وكان له ما أراد , ونسأل كل عاقل من السبب في كل هذا ؟!
ثم يستطرد المؤرخ روفيلة فيقول : ( ولما تولى أخر مكانه – أي مكان الوالي – أذن لهم في بنائها وكان ذلك بمساعدة القاضي ومشورته بحجة أن بناءها أمن عمار البلاد , فشكروه على ذلك ) ( المصدر السابق ص 82 ) .
وفي هذا يقول العلامة المقريزي : ( ثم لما مات ميخائيل قدم اليعاقبة في سنة ست وأربعين ومائة انبامسنا، فأقام سبع سنين ومات. وفي أيامه خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائة وصاروا في جمع، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرا، فأتاهم القبط ليلا وقتلوا عدة من المسلمين وهزموا باقيهم، فاشتد البلاء على النصارى واحتاجوا إلى أكل الجيف، وهدمت الكنائس المحدثة بمصر، فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودة بمصر، وهدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لسليمان بن علي أمير مصر في تركها خمسين ألف دينار، فأبى، فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد، وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، واحتجا بأن بناءها من عمارة البلاد، وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين ) ( المواعظ والإعتبار 3/257 , والقول الإبريزي ص 98-99 ) .
وقد أطال المؤرخ روفيلة في ذكر المحاسن الرفيعة التي فعلها الوالي " موسى بن عيسى " مع النصارى في مصر أنذاك . ( تاريخ الأمة القبطية 82-83 ) .
ثم انتقل المؤرخ روفيلة إلى خلافة هارون الرشيد وخروج أهل الحوف على والي مصر بسبب الحجة البالية " زيادة الخراج " على أهل البلاد , ثم تولي الخلافة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد سنة 198هـ-813م .
يقول المؤرخ روفيلة : ( فبعث – أي المأمون – لأهل البلاد رسائل يدعوهم فيها إلى الطاعة لأنه كان مشتغلاً بمحاربة الروم وأرسل هذه الرسائل عن يد مندوبين مخصصون فلم يجد ذلك نفعًا , ولم انتهى من حرب الروم وقصد العود إلى بغداد دار الخلافة , عرج على مصر فوجدها في حالة يرثى لها , والناس في ضنك شديد , فسخط على الوالي , وكان إسمه عيسى بن منصور , وقال له : " إن لم يكن هذا الحدث العظيم إلا من سوء فعلك وفعل عمالك , حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتم الخبر عني حتى تفاقم الأمر وإشتد البلاء وإضطربت البلاد " . وأمر بتجريده من ملابسه فنزعت عنه وأخذه بثياب البياض على مرأى الجميع جزاءً له وعبرة لغيره ) ( المصدر السابق ص87 ) .
بالطبع لا نعلم مصدر هذه الرواية , وما هو المرجع الذي نقل عنه المؤرخ روفيلة هذه القصة , إلا أننا سنتماشى مع المؤرخ روفيلة فيما نقل وزعم , إذ يظهر من القصة عدل المأمون ومعاقبته للولاة لمخالفتهم الأمر .
ويتحفنا المؤرخ روفيلة بما فعله المأمون بأقباط مصر أنذاك فيقول : ( ... ويقول مؤرخو المسلمين أن المأمون لما كان في مصر ورأى إنتفاض أقباط الوجه البحري حكم بقتل رجالهم وبيع نسائهم وسبي أطفالهم . أما مؤرخو القبط فيقولون أنه لما وصل المأمون إلى مصر , ذهب إليه البطريرك وهو حينئذ الأب يوساب فقابله الخليفة بما يليق وأكرمه وكلمه في أمر مخالفة أقباط الوجه البحري وطلب إليه أن ينصحهم ويحذرهم بأن يكتب لهم منشورًا يدعوهم فيه إلى الطاعة حقنًا لدمائهم , ووعده أن ينظر بنفسه في راحتهم وفيما يشكون منه , فلبى البطريرك طلبه , وكتب المنشور إمتثالاً لأمره وأرسله , فأطاع الناس وسلموا إلا أهل البشمور , فلم يقبلوا النصيحة وأبوا إلا المقاومة بدون أن يتبصروا ) ( المصدر السابق ص 87 – 88 ) .
وهكذا يخبرنا المؤرخ روفيلة أن الأقباط هم الذين خالفوا العهد وخرجوا على نظام الدولة , وأن حجة " زيادة الخراج " ما هى إلا ذريعة لزعزعة البلاد , ولو كان الأمر كذلك لخرج أهل مصر من المسلمين والنصارى واليهود على الوالي , إحتجاجًا على هذه الزيادة , لكن هذا لم يحدث , بل خرج الأقباط من النصارى فقط , وهذا أكبر دليل على خروجهم على الوالي بلا أي سبب , حتى ولو زعموا ما زعموا !
ولا عجب في رد فعل الخليفة المأمون , فرغم أن النصارى انتهزوا فرصة إنشغال المأمون بمحاربة الروم وتعمدوا زعزعة أمن البلاد واستقراره , إلا أنه محكوم بدين عظيم أمره ألا يغدر برعيته , بل أمره بسلوك الطرق الشرعية والسلمية في التفاوض والتباحث مصداقًا لقوله تعالى : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنفال61 . فعليه الإستماع إلى شكاوى رعاياه من أهل ذمة الأسلام , ونصرتهم على عدوهم وإن كان مسلمًا !
ويستطرد المؤرخ روفيلة فيقول : ( ... ولو قبلوا النصيحة لنالوا من لدنه – أي المأمون – خيرًا ونعمة وراحة , ولكنهم جلبوا على أنفسهم مصيبة لم يبرأوا منها , ومن ثم ذل القبط ولم يتجرأوا على المقاومة ) ( المصدر السابق ص 88 ) .
ثم يزيد المؤرخ روفيلة في إتحافنا فيقول : ( ولما خمدت نار الفتنة وهدأت الأحوال شرع المأمون في تطيب خواطر الناس , فصار يطوف البلاد , وأخذ يتفقد أحوال الرعيات بنفسه .... ) ( المصدر السابق ص 88 ) .
ثم يخبرنا المؤرخ روفيلة بقصة العجوز القبطية ماريا , التي ضيفت المأمون ومن معه , وأهدتهم أكياسًا من الذهب , فلما سألها المأمون من أين لها هذا ؟ فقالت : من عدلك يا أمير المؤمنين ! ( المصدر السابق ص 89-90 ) .
إلى متى سيتعامى النصارى عن هذا التاريخ ؟!
إلى متى سيظلون ينظرون إلى التاريخ بعين التحزب والحقد والكراهية ؟!
ألم يأن لهم أن يعلموا أنه لولا الإسلام بسماحة تعاليمه وتشريعه لصاروا إلى شر حال ؟!
لقد تطرق المؤرخ روفيلة فيما بعد إلى ذكر أحداث الوالي " ابن المدبر " وفرضه الضرائب على الرهبان ورجال الدين , وأوقاف الكنائس والأديرة , فاستقر رأي البطريرك ورجال الأمة المسيحية على إرسال رجلين منهم إلى بغداد , ليبسطا الأمر للخليفة العباسي " المعتز بالله " , ويطلبا منه أن يصدر أمره إلى عامله " ابن المدبر " بأن يرفع المظالم , واختاروا لهذه المهمة اثنين من غير موظفي الديوان , أحدهما يدعى ساويرس والأخر إبراهيم , وزودهما البطريرك بكتاب للخليفة , فأجاب الخليفة لهما سؤلهما , وسلمهما أمرًا بمعافاة الرهبان وخدام الدين من الجزية وتخفيفها عن باقي الناس , ولما نزل " المعتز " عن الخلافة وخلفه " المهدي " , عادت الأحوال فساءت في مصر , فرجع إبراهيم وحصل من الخليفة على أمر يؤيد الأمر الأول . ( تاريخ الأمة القبطية ص 93-95 , وانظر خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 116 – 117 ) .
وقد أشرنا مسبقًا لهذه القصة وبيان ما فيها من محاسن الخلفاء العباسيين في تعاملهم مع أهل ذمة الإسلام , وإعتبارهم جزء لا يتجزأ من المجتمع المسلم , لهم ما لنا وعليهم ما علينا , فهؤلاء النصارى المذكورين أعلاه لما خرجوا إلى الخليفة ليعرضوا له شكواهم ومطالبهم لم يخشوا بطش سلطان أو إي إضطهاد مزعوم , لأنهم يعلمون أن ما فعله معهم " ابن المدبر " مسألة عارضة ليست هى الأصل في دولتهم , ولأنهم يعلمون أن العدل أساس دولة الإسلام , وأن الخليفة لن يرضى بما فعله عامله .
لقد أشاد المستشرق " ترتون " في كتابه الشهير" الإسلام وأهل الذمة " بتسامح المسلمين إبان العهد العباسي مع أهل ذمتهم , وذكر تكريم الولاة والخلفاء العباسيين لهم , فيقول : ( والكُتَّاب المسلمون كريمون في تقدير فضائل هؤلاء ممن على غير ملتهم , حتى ليسمون " حنين بن إسحاق " برأس أطباء عصره , " وهبة الله بن تلميذ " بأبي قراط عصره , وجالينوس دهره , وكان " بختيشوع بن جبرائيل " ينعم بعطف الخليفة المتوكل حتى إنه كاد يضاهيه في ملابسه , وفي حسن الحال , وكثرة المال , وكمال المروءة , ومباراته في الطيب والجواري والعبيد , ولما مرض " سلمويه " بعث المعتصم ابنه لزيارته , ولما مات أمر بأن تحضر جنازته إلى القصر , وأن يصلى عليه بالشموع والبخور جريًا على عادة النصارى , وامتنع المعتصم يوم مماته عن أكل الطعام , أما " يوحنا بن ماسويه " فقد خدم الخلفاء العباسيين منذ الرشيد إلى المتوكل , وكان لا يغيب قط عن طعامهم , فكانوا لا يتناولون شيئًا من أطعمتهم إلا بحضرته , ومن ثم لم يكن هناك أدنى كلفة بينه وبين الخليفة المتوكل , فكان الخليفة يداعبه في رفق ولين ) ( الإسلام وأهل الذمة ص 145- 147 بتصرف ) .
الأقباط في عهد الدولة الطولونية !
لقد ذكرنا طرفًا من أعمال السلطان أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية مع أهل الذمة بمصر ودمشق , فهو صاحب النهضة التي ارتقت بالشعب المصري في شتى مناحي الحياة , وقد ذكر المؤرخ روفيلة في موسوعته التاريخية " تاريخ الأمة القبطية " محاسن هذه الدولة وسلطانها رحمه الله .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وكذلك أحمد بن طولون وإن يكن عامل البطريرك بما لا يليق إلا أنه أراح المصريين كثيرًا , فرفع ما كان باقيًا عليهم من الضرائب الغير إعتيادية التي فرضها " إبن المدبر " وخفض الضرائب عن الأطيان , فإنتفع الأقباط من ذلك كثيرًا , وإتسعت في أيامه الزراعة وإستقامت الأحوال , وشيدت المباني العالية والقصور الشاهقة , وهو الذي أسس بمصر الجهة المعروفة الأن بطولون ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101 ) .
وعن الخلاف الذي حدث بين السلطان إبن طولون والبطريرك , فلم يكن السلطان سببه , بل سببه التنازع بين رجال الكنيسة على السلطة الدينية , فيقول المؤرخون النصارى : أن أحد الأساقفة بعد أن عزله البطريرك , أراد الكيد من البطريرك لعزله إياه , فعلم حاجة السلطان للأموال من أجل النفقات على البلاد والفتوحات , فأخبر السلطان أن البطريرك يكنز المال وهو في غير حاجة إلا للطعام واللبس , فلما إستدعى السلطان إبن طولون البطريرك , وطلب منه أن يدفع له عن طيب خاطر فينال من ذلك الإحسان من الخليفة والسلطان , إمتنع البطريرك عن ذلك لعدم إمتلاكه للمال , فلم يقبل منه السلطان عذرًا , وحمله بدفع عشرين ألف دينار , فلما رفض البطريرك , أودعه السلطان في السجن , فتشفع له كاتبان مقربان عند السلطان وهما يوحنا وإبراهيم ولدا موسى كاتب سر السلطان إبن طولون , فلم يقبل , ثم تشفع يوحنا وإبنه مقاريوس وهم كتبة أحد وزراء السلطان , فقبل السلطان وأخرج البطريرك من السجن على أن يتكفل البطريرك بدفع المبلغ المطلوب منه على أقساط , حتى إضطر لبيع بعض أوقاف الكنائس , ولما مات السلطان وتولى ابنه خماوريه عفا عن البطريرك وأسقط عنه الأقساط , فشكر أقباط النصارى له ذلك . ( تاريخ الأمة القبطية ص 98-99 ) .
والناظر إلى القصة سالفة الذكر , لا يجد فيها حدث جماعي , بل حدث فردي وقع فيه السلطان فريسة التنازع بين رجال الكنيسة على السلطة الدينية , أما حال أقباط النصارى العام , فلقد كان السلطان كما ذكر المؤرخ روفيلة لا يفرق بين الأقباط المسلمين والأقباط النصارى فكلهم يمثلون المجتمع المصري , بل حسبك أنه رغم غضبه من البطريرك , إلا أنه سمح للكُتَّاب النصارى بالتشفع عنده , بل أبقاهم على مناصبهم , ولم يسيء للأقباط النصارى بوجه عام أثناء ذلك .
وقد ذكرنا مسبقًا قصة بناء مسجد أحمد بن طولون , وبيَّنا ما في القصة من إفتراءات وحقائق , فلقد زعمت لجنة التاريخ القبطي أن السلطان أحمد بن طولون إستجاب للرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس لبناء المسجد , وهَمَّ بفعل ذلك لولا تدخل مهندس نصراني يدعى " ابن كاتب الفرغاني " الذي إقترح على السلطان تصميمًا لن يحتاج فيه إلى أية أعمدة من الكنائس , وراحت لجنة التاريخ القبطي تزعم أنه لولا هذا المهندس النصراني لهدمت صوامع وكنائس !
وقد ذكرنا حينها أن السلطان أحمد بن طولون إستبعد الرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس فور إقتراحه , وذلك قبل إقتراح ذلك المهندس لهذا التصميم , إعتمادًا على ما ذكره العلامة المقريزي , وأن المهندس النصراني أرسل إلى السلطان بعد ذلك يعرض عليه المساعدة لا من أجل إنقاذ الكنائس بل لأنه أراد المشاركة في التصميم والتنفيذ .
وقد يعترض النصارى على نقلنا من كتاب العلامة المقريزي لأنه مسلم , لذا ننقل من كتاب المؤرخ روفيلة ما يثبت أن السلطان أحمد بن طولون كره الرأي القائل بأخذ الأعمدة من الكنائس , وظل حائرًا ماذا يفعل من أجل أن يبني مسجدًا جامعًا ؟!
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وقيل أنه لما عزم على بنائه – أي المسجد – أراد أن يجعله أعظم ما بني من الجوامع في مصر إلى ذلك الحين بأن يقيمه على ثلثمائة عمود من الرخام , فقيل له أنه مثل هذا لا يمكن الحصول عليه إلا إذا هدمت كنائس ومعابد النصارى , فعدل عن رأيه حتى لا يحرموا من معابدهم , ولكن بقي مترددًا في هذا الأمر . وكان يوجد مهندس نصراني يسمى إبن كاتب الفرغاني عارف بفن الهندسة وصنعة البناء , كان ألقاه أحمد بن طولون في السجن لتهمة بعد أن بنى له مقياسًا للنيل وبقي فيه مدة حتى نسيه بالمرة , فلما بلغ المهندس ما كان من رغبة إبن طولون وتردده , كتب إليه عريضة وهو في السجن بما يفيد إقتداره على إتمام مشروعه وإستعداده لتنفيذ مرغوبه بغير إحتياج لأكثر من عمودين يجعلهما في القبلة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101-102 ) .
لقد زعم بعض المؤرخين النصارى أن السلطان أحمد بن طولون عرض على سعيد بن كاتب الفرغاني أن يعتنق الإسلام , فلما أبى أمر السلطان أحمد بن طولون بقتله !
وهذا مما ذكروه بلا أي دليل يثبت صحة دعواهم , بل حسبك أنهم إختلفوا فيما بينهم في ذكر هذا الخبر , فزعم بعضهم أنه ما لبث ابن كاتب الفرغاني من الإنتهاء من بناء المسجد حتى قتله السلطان ابن طولون , وزعم بعضهم أن السلطان أجرى عليه الرزق طيلة عمره ولم يقتله , وذكر بعضهم أن السلطان أراد أن يعتنق ابن كاتب الفرغاني الإسلام فأبى الأخير فأمر السلطان بقتله فقطعت رأسه عن جسده , وزعم أخرون أن السلطان ألقاه من فوق قصره لما أبى إعتناق الإسلام !
وعلى هذا جرى أمر المؤرخين النصارى بين تناقض وتضارب في ذكر هذا الخبر , ونحن لا نقول هذا من باب الدفاع عن أحمد بن طولون , بل نقول ذلك من أجل الحق والحق وحده , أنه لم يعرف التاريخ قط حالة واحدة قُتل فيها مسيحي أو يهودي من أجل رفضه إعتناق الإسلام , بل لم يعرف التاريخ قط أن المسلمين أكرهوا المسيحيين أو اليهود على إعتناق الإسلام , كيف لا والله تبارك وتعالى هو الذي قال في محكم آياته : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }يونس99 . وقال سبحانه : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }البقرة256 .
ونذكر بما ذكرته لجنة التاريخ القبطي : ( ... فتعهد المهندس العمل إلى أن أتمه في رمضان سنة 265هجرية ( سنة 879 م ) . وعند الإحتفال بافتتاحه وزعت الصدقات على الفقراء وأرسلت الهدايا إلى مستحقيها فنال المهندس عشرة آلاف دينار , وعدا ذلك أمر أحمد بن طولون بأن يجري عليه الرزق مدة حياته ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 117 – 118 ) .
وهكذا تمتع الأقباط النصارى بالعديد من المزايا في عهد الدولة الطولونية , وحتى بعد وفاة مؤسسها إبن طولون , فلقد أكرم ابنه خماوريه أقباط النصارى .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وكان على أبروشية طحا أسقف يسمى الأب باخوم نال بعقله وتدبيره وحسن سيره وسيرته ثقة خمارويه الذي كان لا يرفض له طلبًا , فنال القبط بواسطة هذا الأسقف راحة تامة ومزايا جمة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 101 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة أيضًا : ( ... وبالجملة فإن المصريين عمومًا لم يروا من بعد عمرو بن العاص أيامًا أحسن من أيام بن طولون والدولتين الفاطمية والأيوبية ) ( المصدر السابق ص 108 ) .
الأقباط في عهد الدولة الإخشيدية !
لم يدم حكم الدولة الإخشيدية سوى أربع وثلاثين سنة ( 323هـ - 358هـ ) , وسميت بهذا الإسم نسبة إلى مؤسسها " محمد الإخشيد " الذي وصفه المؤرخ روفيلة بأنه كان شجاعًا وحازمًا ويتصف بحسن التدبير .
ورغم قصر حكم هذه الدولة , إلا أن بعض المؤرخين النصارى يزعمون أن " محمد الإخشيد " كان يقتطع من أموال الأقباط ليتقوى بها على الحروب , وحسبنا في رد هذه الشبهة , ما ذكره المؤرخ روفيلة , إذ يقول : ( بعض مؤرخي المسيحيين ينسب إليه الجور – أي إلى محمد الإخشيد – لأنه كان يجمع منهم أموالاً يتساعد بها على الحروب , لكن أحد المؤرخين المعاصرين له قال إنه كان يرد إليهم ما يأخذه منهم ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 103 ) .
الأقباط في عهد الدولة الفاطمية !
لقد تمتع الأقباط النصارى في عهد الدولة الفاطمية بمزايا جمة , وإمتيازات خاصة , أوهمت معظمهم أنهم صاورا ملاك البلاد والمتحكمين فيها , فراحوا يؤذون المسلمين ويتطاولون عليهم , مما دعا الحاكم بأمر الله أن يفعل بهم ما فعل , وقد بسطنا القول في ذلك .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... وتقلد كثير من الأقباط الوظائف العالية في دواوين الحكومة , لا سيما المتعلقة بالأعمال الحسابية , فإنهم إستقلوا بها إستقلالاً تامًا , وإمتازوا على غيرهم بوضع قواعد دقيقة وروابط مضبوطة لها فلم يتمكن غيرهم من تسييرها مثلهم , وكانوا قد تمكنوا من معرفة اللغة العربية , وألفوا فيها مؤلفات واسعة تشهد لهم بغزارة المادة وطول الباع ونقلوا إليها أيضًا جملة مؤلفات من اللغتين اليونانية والقبطية ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 142 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة أيضًا : ( ومن محاسن أيام الدولة الفاطمية التي تذكر بالنسبة للأقباط أن معظم الصنائع وأجلها كانت بيدهم , فكان الصياغ والجوهريون والنجارون والحاكة والصباغون والبناؤون والحدادون والمهندسون والنقاشون والشماعون وعاملوا الورق والزجاج على إختلاف أنواعه وألوانه ) ( المصدر السابق ص 142-143 ) .
هذا , وقد تطرق المؤرخ روفيلة إلى عصر الحاكم بأمر الله , فذكر إختلال عقله وفرضه على شعبه أحكامًا غريبة , حتى قال روفيلة : ( ... وتتبع العلماء وأماثل أهل دولته وأكابر الناس على إختلاف أجناسهم وقتل منهم عددًا عظيمًا بغير سبب أو علة ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 116 ) .
وقد بسطنا القول في ذكر أيامه وما كان فيها من أحداث , فإنه – لعنه الله – حارب الإسلام والمسلمين , ولم يفرق في أذيته بين مسلم ونصراني .
يقول المؤرخ روفيله : ( ... وفي أواخر أيام الحاكم بأمر الله ظهر بمصر متمذهب يدعى دراز , ولفق له دينًا جديدًا , وهو المعروف الأن بمذهب الدروز , فإرتاح الحاكم لهذه الديانة الجديدة وإفتتن بها جدًا حتى أنه كان يصعد كل صباح إلى جبل المقطم منفردًا ويدعي بأنه ينادي ربه كما كان يفعل موسى , ومن ثم صار لا يعبأ بمسلم ولا نصراني ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 128 ) .
إلا أننا نذكر أن ما فعله الحاكم بالأقباط النصارى كان سببه تعديهم وتطاولهم وأذيتهم للمسلمين , وذلك لما إرتفع نجمهم في الحكم , إلا أن الحاكم في نهاية المطاف عفا عنهم وأعاد بناء الكنائس لهم , أما أقباط المسلمين فظلوا يعانون من شره حتى أراح الله الناس منه .
الأقباط في عهد الدولة الأيوبية !
رحم الله صلاح الدين وأبيه وعمه وأخيه العادل , وكل من سار على نهجهم من ملوك الدولة الأيوبية , حماة الدين , وناصري الإسلام , جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
يظن الناظر في تاريخ الدولة الأيوبية الأبية وجهادها ضد الصليبيين الغزاة , أن هذه المعارك قد أحدثت تأثيرًا سلبيًا بين هذه الدولة الإسلامية وبين أهل ذمتها من الأقباط النصارى , نظرًا للمعارك الطاحنة بين المسلمين والصليبيين أنذاك .
لكن الإسلام العظيم هذب النفوس , وربى الأمة , وأمرها بالعدل والقسط مع أهل ذمتها , مصداقًا لقول الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8 .
يذكر المؤرخ روفيلة أعظم شهادة تاريخية تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عظمة هذا الدين , وسماحته التي ليس لها مثيل : ( ... عاش القبط في راحة كل باقي أيام الدولة الأيوبية في ظل ملوكها الذين عرفوا أهميتهم في خدمة الحكومة والوطن فقدروهم حق قدرهم رغمًا عما كان بين هؤلاء الملوك والإفرنج من الحروب الدينية المتواصلة , ولم يصب الأقباط في أيامهم ضرر بل ربما نالهم الضرر من ذات الإفرنج الذين إدعوا أن القصد من حروبهم الصليبية حماية الدين المسيحي والمسيحيين ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 178 ) .
ويقول المؤرخ روفيلة فيما يفوق الوصف والتصور : ( ... ومما يذكر بالثناء على الخلفاء الفاطميين وملوك الدولة الأيوبية , أنهم أطلقوا للأقباط عنان الحرية للمدافعة عن دينهم فألف بعضهم مؤلفات واسعة جديرة بالإعتبار أثبتوا فيها بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة صحة معتقدهم وديانتهم ) ( المصدر السابق ص 189 ) .
أين أنتم يا دعاة الحرية الفكرية ؟!
أين أنتم يا دعاة حقوق الإنسان ؟!
أين أنتم يا دعاة الديمقراطية ؟!
يا نصارى مصر : هل وجدتم هذه الحرية إلا في ظل حكم الإسلام ؟!
الأقباط في عهد دولة المماليك البحرية وأوائل الدولة العثمانية !
تطرق المؤرخ روفيلة في هذا الباب إلى أحداث القرن الرابع عشر التي أشرنا إليها وبيَّنا حقائقها وإفتراءاتها , وأطال الحديث أيضًا حول النزاع الفكري بين الكاثوليك والأرثوذكس على السلطة الدينية المسيحية في مصر أنذاك , وعن حكم المحكمة الشرعية بأن تكون السلطة الدينية بيد الأرثوذكس , وقد ذكر أيضًا سيرة أبرز أقباط النصارى في أواخر دولة المماليك وهما : المعلم إبراهيم الجوهري والمعلم جرجس الجوهري .
والمؤرخ روفيلة وكذا عموم النصارى يفتخرون بهذين القبطيين , بل تنقل لجنة التاريخ القبطي في مؤلفها " خلاصة تاريخ المسيحية في مصر " قول " الجبرتي" عن المعلم إبراهيم الجوهري : ( إنه أدرك بمصر من العظمة ونفوذ الكلمة وبعد الصيت والشهرة ما لم يسبق مثله لغيره من أبناء جنسه , وكان من دهاقين العالم ودهاتهم , لا يغرب عن ذهنه شيء من الأمور ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 138 ) .
أما المعلم جرجس الجوهري , فهو من رحب بنابليون بونابرت , عندما جاء بحملته الغاشمة على مصر شرفها الله , وقد ذكر المؤرخ روفيلة ذلك .
يقول المؤرخ روفيلة : ( ... كلف المعلم جرجس الجوهري رئيس المباشرين أن يعد هذا البيت لنزول نابليون فيه ففرشه وجهزه , ولما دخل القاهرة أقام به ومن ذاك الحين عرف نابليون المعلم جرجس الجوهري وأهداه جبة مزركشة بالقصب ليلبسها في أيام التشريفات ) ( تاريخ الأمة القبطية ص 282 ) .
وقد كان الأخوان إبراهيم وجرجس , من كبار رجال الدولة , وكانا عظيمي النفوذ , وكان للمعلم جرجس هذا دورًا كبيرًا في دخول نابليون وحملته الغاشمة إلى مصر , وكذلك أيضًا المعلم يعقوب حنا , وقد تأكد ذلك بعد نشر فرنسا لمراسلات نابليون في مجلدات يخص كلٌ منها مرحلة من حياته وذلك عام 2005م , ففي المجلد الثاني والذي يقع في 1270 صفحة , وعنوانه "حملة مصر ومقدماتها" ، تكشف الوثائق عن وجود مراسلات بين المعلم يعقوب قائد كتيبة الأقباط وجرجس الجوهري أحد أعيان أقباط مصر بخصوص مخططات واسعة المدى للفصل بين أقباط مصر ومسلميها ! (الرسالة رقم 3872 بتاريخ 7 ديسمبر 1798 م ) .
فمن منا لا يعرف المعلم يعقوب حنا القبطي، وملطي، وجرجس الجوهري، وأنطوان الملقب بأبي طاقية، وبرتيلمي الملقب بفرط الرومان، ونصر الله النصراني ترجمان قائمقام بلياز، وميخائيل الصباغ, وغيرهم من زعماء النصارى الذين كانوا يعملون مع المحتل الفرنسي لمصر .
لقد استغل نصارى مصر احتلال نابليون لمصر فتقربوا إليه واستعان بهم ليكونوا عيون جيشه حيث كانوا يرشدونهم على بيوت أمراء المماليك ورجال المقاومة الذين كانوا يجاهدون الفرنسيس ، وكل ذلك ثابت لدى الجبرتي في " عجائب الآثار " ونقولا الترك في " أخبار الفرنساوية وما وقع من أحداث في الديار المصرية " .
إذ يؤكد المؤرخان المعاصران للحملة الفرنسية أن نابليون استقدم معه جماعة من نصارى الشام الكاثوليك كتراجمة بالإضافة إلى استعانته بنصارى مصر (الأرثوذكس) , وقد ذكر الجبرتي أن المعلم يعقوب حنا القبطي كان يجمع المال من الأهالي لمصلحة الفرنسيس .
بل إن المعلم يعقوب وصل به الأمر أن كون فرقة من الأقباط لمعاونة المحتل إذ يقول الجبرتي : ( ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة , جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية ... وصيرهم ساري عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد ، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر ، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير ) ( الجبرتي : عجائب الآثار 4/582 ) .
وكان زعيمهم " برتيلمي " الذي تلقبه العامة بفرط الرومان لشدة إحمرار وجهه , كان يشرف بنفسه على تعذيب المجاهدين وهو الذي قام بحرق المجاهد " سليمان الحلبي " قاتل كليبر ، وكان هذا البرتيلمي يسير في موكب وحاشية ويتعمد إهانة علماء المسلمين ويضيق عليهم في الطرقات محتميًا في أسياده الفرنسيس !
فها هم النصارى منذ أكثر من قرنين يسعون "للإستقواء" بالأجنبي ورسم المخططات الواسعة المدى مع أعداء الوطن بهدف الفصل بين أقباط مصر , بالرغم من أن المماليك – وبشهادة المؤرخين النصارى وكما يقول محررو المجلد في حاشية نفس الوثيقة- كانوا لا يَأتمِنون على إدارة الأملاك الخاصة والعامة سوى الأقباط ، ولذلك كان مباشرو الضرائب ـ بصفة عامة ـ منهم .
وبعد دخول نابليون مصر , لم يميز في بطشه بين مسلم ونصراني , بل زاد من الضرائب على النصارى , كما هو واضح مثلاً من الرسالة 2753 بتاريخ 3 أغسطس 1798م الموجهة إلى المعلم جرجس الجوهري حيث يطلب منه : ( أن يكلف كلاً من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس بتحصيل المبلغ الذي طلبتُه من الأمة القبطية . وألاحظ مع الأسف أنه مازال يتبقى 50 ألف تالاري متأخرات , وأريد أن يتم إيداعها في ظرف خمسة أيام في خزينة الجيش ) .
وفي الرسالة رقم 3294 بتاريخ 21 سبتمبر 1798م إلى بوسييلج ، مدير الشئون الإدارية والمالية للجيش يُذَكره بمتأخرات من تجار الحرير الدمشقي قدرها 8,300 تالاري، وتجار القهوة (32,000) والأقباط (1,000) وزوجات المماليك الهاربين (24,000). ويطلب الإسراع في الدفع . (التولاري عملة فضية من جنوا، كان استعمالها منتشرا آنذاك، وكانت تساوي 5,28 فرنك فرنسي) .
لم يتورع نابليون عن وصف الأقباط بما لا يليق في إحدى الرسائل . فقد اشتكى حاكم الشرقية الجنرال رينييه من تصرفات مباشر الضرائب النصراني في الإقليم ، المدعو فلتاؤوس ، فرد عليه نابليون (رسالة 3130 بتاريخ 10 سبتمبر 1798) قائلاً : ( أبلغتُ المباشرَ العام على الضرائب (الجوهري) بأنك لم تكن راضيًا على الإطلاق عن (المباشرين) الأقباط . إنهم أناس لئام في البلاد ، ولكن ينبغي مراعاتهم لأنهم الوحيدون الذين في يدهم مجمل الإدارة للبلاد . لقد حصُلتُ منهم على سجلات هائلة حول قيمة الضرائب المفروضة ) .
نعم ... إنهم أناس لئام !
والغريب في الأمر , أن النصارى زعموا في رسائلهم لنابليون أنهم مضطهدون , وأنهم يسعون لنيل حريتهم عن طريق دخول القوات الفرنسية وقضائها على المسلمين , في حين أنهم كانوا متسلطين على أعظم المناصب الحكومية في البلاد أنذاك , وهذا يذكرنا بدعوى نصارى مصر اليوم أنهم مضطهدون ( !! ) . وكل ذلك من أجل إعادة ما يعرف بالحملات الصليبية الغاشمة للقضاء على الإسلام والمسلمين !
والقوم – لا أعانهم الله – لم يتعلموا الدرس , إذ لا ينصرهم من يستنجدون به أبدًا , بل هم أول من يذوقون أصناف الذل والقهر على يد من ظنوا أنهم ناصروهم , لعلم كل من إستنجدوا بهم أنهم - أي الأقباط - لئام لا يستحقون المساعدة , فهم طعنوا المسلمين رغم إكرامهم لهم , فمن كان هذا حاله فلا عهد معه ولا كلمة !
وهذا الذي فعله كبار أقباط النصارى أنذاك يعد خيانة عظمى للدولة التي أحسنت إليهم وقلدتهم أشرف المناصب وأعلى الدرجات وأعطتهم الحرية الكاملة , ولقد سطر التاريخ إقدام نابليون - الذي رحب به أقباط النصارى - على قذف الأزهر الشريف بالمدافع من أعلى جبل المقطم , فهم أرادوا الإسلام بقذف إحدى مناراته الرئيسية في العالم الإسلامي !
الأقباط في عهد الدولة العثمانية وما بعدها !
كانت مصر تحكم بالشريعة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي عام 20 هـ , وكان أول قاض بمصر هو " قيس بن أبي العاص السهمي " في خلافة أمير المؤمنين " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه , حتى وصل إلى سدة الحكم " محمد علي باشا " فحمل النطفة الأولى للعلمانية , إذ أعلن إستقلاله عن الدولة العثمانية .
لقد تجرأ " محمد علي " إبان صداقته لفرنسا التي لم يدم على إحتلالها للبلاد أنذاك وخروجها منها سنوات قليلة , على إستبعاد الشريعة الإسلامية وإصدار القوانين الوضعية تشبهًا بأوروبا , وذلك فور إعلان إستقلاله عن الدولة العثمانية .
فإن كان هناك ما دعا أوروبا إلى إستبعاد الحكم الكنسي في بلادها إذ كان عقبة أمام تقدمها في شتى نواحي الحياة , فلم يكن هناك داعيًا لـ " محمد علي " إلى أن يحيف عن الشريعة الإسلامية السمحاء سوى إتباعه لسادته من الفرنسيين والإنجليز , فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع , حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟! قال: فمن ؟! " ( متفق عليه ) .
فأجدادنا من المسلمين – ومعهم أقباط النصارى – تنعموا في ظل الحكم الإسلامي بشريعته السمحاء , فعلَّمنا الأمم كلها في ظله معاني الإيمان والعدل والعلم , ورُسم لنا على خريطة التقدم والريادة أكبر المواقع , فكنا أعظم قبلة للعلم والتعلم , يؤمها أهل الأمم على مختلف أديانهم , وذلك في وقت كانت هذه الأمم تموج في بحور الضلال والإضطهاد والتخلف , ولا سيما أوروبا أثناء حكم الكنيسة لها !
وبعد إحتلال الإنجليز لمصر سنة 1882م أكملوا مشروعهم التخريبي في إستبعاد الشريعة الإسلامية من الحكم , لعلمهم التام أنه إذا ما تم إستبعاد هذه الشريعة عن حكم البلاد , فسيتم لهم مرادهم من غزو البلاد وتدميرها فكريًا وعقائديًا وأخلاقيًا , وقد كان لهم ذلك - بفضل الأسرة العلوية - فلم يبق من الشريعة في الدستور إلا إسمها !
وهكذا صار الحكم في مصر أنذاك – بل وحتى اليوم – بين يدي القوانين الوضعية والإمتيازات الأجنبية التي مكنت الأجانب من إقامة محاكم خاصة لهم للفصل بين رعاياها وبين أهل البلاد !
ولم تسر على البلاد أنذاك أحكام أو قوانين الملل الخاصة بالدولة العثمانية , وهذا " القانون الهمايوني " الخاص ببناء الكنائس والذي يتبجح نصارى اليوم ويزعمون أنه لا يزال يُعمل به في البلاد حتى اليوم , لم يطبق أصلاً في مصر , لإستقلال مصر عن الدولة العثمانية أنذاك , ناهيك عن ما بعد سقوطها , كما أن هذا القانون كان قانونًا إصلاحيًا لسد الثغرات في وجه التدخل الإستعماري الغربي الحاقد على ثروات المسلمين .
وعلى هذا فكل دعاوى الإضطهاد – المزعومة – والتي يطلقها النصارى منذ ذلك العصر وحتى اليوم , ليس لها علاقة بحكم الإسلام للبلاد , بل لها علاقة بسياسة الحكم الوضعي للبلاد .
ولئن كان النصارى يزعمون - ظلمًا وعدوانًا وإفتراءًا – أنهم نالوا الحرية بعد حكم " محمد علي " وإستبعاد الشريعة الإسلامية كدستور للدولة , وذلك رغم الحرية والعدل التي ذكرنا بعضًا منها في ظل حكم الشريعة الإسلامية , عُلم من ذلك قطعًا أن دعواهم ما خرجت من أفواههم إلا حقدًا وحسدًا على عظمة هذا الدين , والسعي في القضاء عليه !
ورغم زعم المشرعين أن المادة الثانية من الدستور المصري الحالي تنص على أن الإسلام هو مصدر التشريع الرئيسي للبلاد , إلا أنه لا يخفى على من له مسحة من عقل أن الشريعة معطلة في شتى نواحي الحياة , فيما عدا بعض مسائل الأحوال الشخصية .
ونتساءل : ما سر هذه الضجة حول الأقليات والحكم بالشريعة الإسلامية ؟!
الأقليات المسيحية في مصر والحكم الإسلامي !
بعد إنتهائنا من النقل عن المؤرخ الأرثوذكسي " يعقوب نخلة روفيلة " في كتابه " تاريخ الأمة القبطية " عند سقوط الدولة العثمانية , وبداية الحكم الوضعي بمصر على يد الأسرة العلوية , نعرض شهادات عدة على لسان رؤوس الأقباط النصارى في مصر تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عظمة الشريعة الإسلامية وسماحتها وإهتمامها البالغ بحقوق أهل ذمتها , وأن الأحكام الوضعية أضاعت حقوق الأقباط النصارى التي ضمنتها لهم الشريعة الإسلامية , تلك الشريعة التي عاشوا في ظلها أسعد أيامهم على مر تاريخهم !
يقول المؤرخ الغربي " آدم ميتز " : ( ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم , والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية , وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضًا , وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون , ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج , بل كانت تشمل – إلى جانب ذلك – مسائل الميراث , وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به , وعلى أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية , ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا , ولذلك ألف " الجاثلين ثيمونيوس " حوالي عام 200هـ - 800م كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية – لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجؤون إلى المحاكم غير المسيحية , بدعوى فقدان قوانين المسيحية .... وفي عام 120هـ - 738م , ولى قضاء مصر " خير بن نعيم " , فكان يقضي في المسجد بين المسلمين ثم يجلس على باب المسجد بعد العصر على المعارج فيقضي بين المسيحيين .. ثم خصص القضاة للمسيحيين يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاء ليحكموا بينهم , حتى جاء القاضي " محمد بن مسروق " الذي ولي قضاء مصر عام 177هـ , فكان أول من أدخل المسيحيين في المسجد ليحكم بينهم ) ( الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري , آدم ميتز 1/85-87 ) .
وهكذا كان النصارى في مصر في ظل حكم الشريعة الإسلامية , يُقبلون عليها ويحتكمون إليها في قضاياهم ومنازعاتهم إختيارًا منهم , لما فيها – أي الشريعة الإسلامية - من شمول وتفصيل وحكمة ورحمة وعدل وسماحة !
المسيحيون في مصر والحكم بشرع الله !
تحت هذا العنوان الذي صدَّرت به مجلة " الدعوة " عددها الصادر بتاريخ شهر ربيع الأول سنة 1397هـ الموافق لشهر فبراير من عام 1977م ( تفاصيل التحقيق بالمجلة ص 12- 15 , تحقيق للأستاذ / محمود عبد الباري ) . وجهت المجلة بعض الأسئلة إلى بعض أهل الفكر الكبار من ممثلي الطوائف المسيحية في مصر , وهم : الكاردينال " إسطفانوس " بطريرك الأقباط الكاثوليك سابقًا , والأنبا " غريغوريوس " أسقف البحث العلمي والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة القبطية وممثل الأقباط الأرثوذكس سابقًا , والقس " برسوم شحاته " وكيل الطائفة الإنجيلية في مصر سابقًا , لذا رأيت أن أنقل من أجوبتهم على أسئلة " الدعوة " بعض الشهادات الناصعة في حق شريعتنا الإسلامية النقية الصافية .
شهادة الكاردينال " إسطفانوس " بطريرك الأقباط الكاثوليك سابقًا !
يقول الكاردينال " إسطفانوس " فيما له علاقة ببحثنا من خلال تحقيق مجلة " الدعوة " سالف الذكر : ( إن الذي يحترم الشريعة الإسلامية يحترم جميع الأديان , وكل دين يدعو إلى المحبة والإخاء , وأي إنسان يسير على تعاليم دينه لا يمكن أن يبغض أحدًا أو يلقى بغضًا من أحد , ولقد وجدت الديانات الأخرى والمسيحية بالذات , في كل العصور التي كان الحكم الإسلامي فيها قائمًا بصورته الصادقة , ما لم تلقه في ظل أي نظام آخر من حيث الأمان والإطمئنان في دينها ومالها , وعرضها وحياتها ) .
شهادة الأنبا " غريغوريوس " أسقف البحث العلمي
والدراسات العليا اللاهوتية بالكنيسة الأرثوذكسية المصرية !
يقول الأنبا غريغوريوس : ( لقد لقيت الأقليات غير المسلمة والمسيحيون بالذات في ظل الحكم الإسلامي الذي كانت تتجلى فيه روح الإسلام السمحة كل حرية وسلام وأمن في دينها ومالها وعرضها ) .
شهادة القس " برسوم شحاته " وكيل الطائفة الإنجيلية سابقًا !
يقول القس " برسوم شحاته " : ( في كل عهد أو حكم إسلامي إلتزم المسلمون فيه بمباديء الدين الإسلامي كانوا يشملون رعاياهم من غير المسلمين والمسيحيين على وجه الخصوص بكل أسباب الحرية والأمن والسلام , وكلما قامت الشرائع الدينية في النفوس بصدق , بعيدة عن شوائب التعصب الممقوت والرياء الدخيليين على الدين , كلما سطعت شمس الحريات الدينية , والتقى المسلم والمسيحي في العمل الإيجابي والوحدة الخلاقة ) .
شهادة رئيس الكنيسة القبطية المصرية
وبابا الأقباط الأرثوذكس الأنبا " شنودة " !
يقول الأنبا " شنودة " بطريرك الكرازة المرقسية الأرثوذكسية : ( إن الأقباط في ظل حكم الشريعة , يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا , ولقد كانوا كذلك في الماضي , حينما كان حكم الشريعة هو السائد .. نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " . إن مصر تجلب القوانين من الخارج الآن , وتطبقها علينا , ونحن لسنا عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة , فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام ؟! ) ( صحيفة الأهرام المصرية بتاريخ 6 مارس سنة 1985م ) .
September 2008 - 10:58 AM
وقفة مع شهادات القساوسة !
إن المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة , ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام , لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله ورسالات السماء والجزاء في الآخرة , كما يقوم على تثبيت القيم الإيمانية والمثل الأخلاقية التي دعا إليها الأنبياء جميعًا , ثم هو يحترم المسيح وأمه عليهما السلام , وكذا الإنجيل المنزل على المسيح عليه السلام , فكيف يكون هذا الحكم بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني مصدر خوف أو إزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر على حين لا يزعجه حكم وضعي أو علماني يعرف زورًا بـ " المدني " يحتقر جميع الأديان , بل لا يسمح بوجودها ؟! هذا فضلاً عن تشجيع هذه الوضعيات والعلمانيات " المدنيات " على الرذيلة والفواحش واللواطية !
من الخير للمسيحي المخلص في طلب الفضيلة أن يشجع الحكم الإسلامي , فيأخذه على أنه نظام قانون ككل الأنظمة والقوانين , وأود أن أصحح هنا خطأ يقع فيه كثيرون , وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية , فهذا خطأ مؤكد , إذ الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحيين والمسيحية في أوطاننا من تلك القوانين , لأصوله الدينية من ناحية , ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها من ناحية أخرى .
ولا غرو إن وجدنا أيضًا بعض القانونيين المسيحيين يدرسون الفقه الإسلامي ويدافعون عنه , ويعتبرونه تراثًا تشريعيًا للأمة كلها , مسلمين وغير مسلمين , خاصة وأن المسيحية لم تأتي بأنظمة وقوانين للحكم لها ما لقوانين الإسلام من تفصيل وشمول في شتى نواحي الحياة كما ذكر " الأنبا شنودة " في شهادته التي ذكرناها , بل وُجد في قوانين الإسلام حقوقًا للأقليات الغير مسلمة , ضمنت لهم حرية التدين والعيش والكسب والتعلم , وكذلك ضمنت لهم حق الدفاع عنهم ضد أي ظلم داخلي أو خارجي , بجانب أن الإسلام لم يكلفهم في أحوالهم الشخصية والإجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم , وإن كان قد حرمه الإسلام , وقد خلت الشريعة الإسلامية بينهم وبين محاكمهم الخاصة بهم للفصل بينهم إن أرادوا ذلك ورغبوا فيه .
بل أعجب ما في الأمر , أن الله تبارك وتعالى جعل حقوق أهل ذمة الإسلام من الدين , يأخذها المسلمون متساوية مع بقية فرائض وأومر الدين , فهو محاسب على تنفيذها - أي حقوق أهل الذمة - , فيعلمون أن عين الله الساهرة ترقبهم في أهل ذمتهم كما ترقبهم في صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم , فلا رهبة لحاكم تدعو للتخلص منها , بل التخلص من هذه الحقوق وإهمالها يمثل تخلصًا وإهمالاً في أحد الأوامر الربانية التي عليها مدار الدين كله , فالدين المعاملة كما ذكر أهل العلم .
ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي , خاصة - وكما ذكرنا - أن المسيحية ليس لها إتجاه معين في نظام الحكم .
الآب متَّى المسكين يعلنها مدوية
" ليس للمسيحية إتجاه معين في نظام الحكم " !
يقول الآب متَّى المسكين : ( ليس للمسيحية إتجاه معين في نظام الحكم , ولكنها تقول دائمًا بالحرية والحكم الأفضل : " جئت ليكون لهم حياة ويكون لهم أفضل " . فأفضل نظام للحكم , وأفضل نظام للحياة , هو ما تبغيه المسيحية وتعمل على تحقيقه ... فالمسيحية لا تزكي حكمًا على حكم , ولكن تزكي دائمًا الإنتقال من نظام حكم إلى نظام حكم أفضل , وتعمل باجتهاد لهذا الإنتقال ) ( مقالات بين السياسة والدين : متَّى المسكين ص 57 ) .
والإسلام - بلا شك - يهييء حكمًا أفضل مما عاشه الإنسان تحت عهود الوضعية والعلمانية والشيوعية والرأسمالية والإشتراكية ... إلخ , بل لا نقول هذا من باب الإدعاء , بل هذا ما أثبته الواقع , وشهد به التاريخ , ولعل ما دلت عليه الأرقام في " إستطلاع الرأي " الذي نظمه المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية بمصر حول تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر , والذي شارك في الإجابة على أسئلته مسلمون ومسيحيون , أبلغ شاهد على دعوانا , فلقد كانت الأرقام ذات الدلالة الحاكمة : مع التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية , وزادت نسبة المسيحيين عن المسلمين في هذا الإستطلاع ( 32% إلى 31% ) , ومع تطبيق أحكام الشريعة على الجميع , بصرف النظر عن إختلاف الدين , زادت نسبة المسيحيين عن المسلمين ( 71% إلى 69% ) !! ( صحيفة الأهرام , بتاريخ 20 مارس سنة 1985م ) .
ولمزيد بيان حول حقوق الأقليات الغير مسلمة في المجتمع الإسلامي وأفضلية الحكم الإسلامي لهذه الأقليات , إطلع على هذا الرابط :
http://www.aljame3.n...?showtopic=5096
إستدراك : شهادة مفحمة !
يقول المدعو " عزت أندرواس " صاحب الموسوعة " العنصرية " الكاذبة الخاطئة " موسوعة تاريخ أقباط مصر " بالنص والحرف : (( قال المؤرخين العرب انه خرج 70000 راهب قبطي من وادى النطرون0بيد كل منهم عكازا عراه الأقدام وثياب ممزقه0مهللين لعمرو بن العاص0وتلقوه بالمطرانه مرجعه من الاسكندريه يطلبون أمانه لهم علي أنفسهم واديرتهم0ولكن الامير عمر طوسن قال : " إن عدد 70000 راهب الذى ذكره المقريزي فى عبارته الانفه لاريب ان فيه مبالغه كبيره0فقد روى المعاصرون كما سبق ذكره أنه لم يوجد فى هذه المنطقه أكثر من 3500 راهب فى اوائل القرن السادس الميلادى " )) إهـ .
أولاً : دع عنك أنه لا يفرق بين الفاعل والمفعول !!
ثانيًا : لقد نسب المدعو " طوسن " القصة إلى العلامة " المقريزي " !! والقوم يريدون بذلك تضليل رعاياهم وإخبارهم بأن القصة من صنع المسلمين , وقد ذكر المدعو " عزت أندرواس " في تتمة كلامه بأن القصة خيالية حقدًا وبغضًا وحسدًا , لكن الله مظهر الحق ومذل منكره , إذ أن هذه القصة ذكرها المؤرخون المسيحيون أنفسهم نقلاً عن أسلافهم , وهذه شهادة واحد منهم , وهو الشماس " منسي القمص " وهو لا يقل في تعصبه وحقده على المسلمين عن أخيه في العنصرية " عزت أندرواس " !
تاريخ البطاركة في الكنيسة القبطية
38- البابا بنيامين الأول
( 623 - 662 م)المدينة الأصلية له : برشوط - البحيرة
الاسم قبل البطريركية : بنيامين
الدير المتخرج منه : دير قبريوس (قنوبوس )
تاريخ التقدمة : 9 طوبه 339 للشهداء - 4 يناير 623 للميلاد
تاريخ النياحة : 8 طوبه 378 للشهداء - 3 يناير 663 للميلاد
مدة الإقامة على الكرسي : 39 سنة
مدة خلو الكرسي : 6 أيام
محل إقامة البطريرك : دير متراس بالأسكندرية
محل الدفن : المرقسية بالإسكندرية
الملوك المعاصرون : هيرقل الأول - الثاني - عمر - عثمان - على - حسن بن على - معاوية
- من بلدة برشوط محافظة البحيرة من أبوين تقيين غنيين.
- ترهب بدير القديس قنوبوس بجوار الإسكندرية وكان ينمو في كل فضيلة حتى بلغ الكمال المسيحي.
- قدمه أبوه الروحانى إلى البابا أندرونيقوس فرسمه البابا قساً وسلمه أمور الكنيسة.
- ولما أختير للبطريركية حلت عليه شدائد كثيرة وكان ملاك الرب قد كشف له عما سيلحق الكنيسة من شدائد وأمره بالهرب هو وأساقفته ففعل ذلك...
ومضى هو إلى برية القديس مقاريوس ثم إلى الصعيد.
- وبعد خروجه بقليل وصل الإسكندرية المقوقس الخلقيدونى متقلداً زمام الولاية والبطريركية من قبل هرقل الملك واضطهد المؤمنين كثيراً.
- وبعد قليل وصل عمرو بن العاص وغزا البلاد واستولى على مدينة الإسكندرية... ولما علم باختفاء البابا بنيامين طلب حضوره معطياً إياه العهد والأمان والسلام فحضر الأنبا بنيامين بعد أن قضى ثلاثة عشرة سنة هارباً.
- وكان هذا الأب كثير الاجتهاد في رد غير المؤمنين إلى الإيمان وتنيَّح بسلام بعد أن أقام في الرياسة سبعاً وثلاثين سنة.
عيد نياحته في الثامن من شهر طوبه.
شهادة المؤرخة القبطية
د/ إيريس حبيب المصري
المؤرخة القبطية د/ إيريس حبيب المصري صاحبة الموسوعة الشهيرة " قصة الكنيسة المصرية " , والتي أشرف على إخراجها أكابر رجال الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في القرن الماضي , تحدثت - في موسوعتها - عن أحوال الأقباط النصارى في عصور الدولة الإسلامية بمصر شرفها الله , نستعرض بعضًا مما جاء في هذه الموسوعة , مما له علاقة ببحثنا .
تقول د/ إيريس عن الفتح الإسلامي لبلاد الشام في موسوعتها 2/238 :
إن هذه الشهادة جاءت لتثبت حادثة ينكرها اليوم العديد من النصارى , الذين حملوا راية الحقد والتعصب على كل ما هو إسلامي , لا من أجل شيء سوى أن الإسلام أعطى للنصارى الحق في تأدية شعائرهم الدينية ومباشرة أعمالهم الدنيوية !
لكننا نقول لهم : لماذا لا تقرأوا تاريخكم مع الإسلام والمسلمين ؟!
إن إعراض النصارى عن هذه الأبحاث الموثقة من أجل التحزب الديني الصليبي , لن ينفعهم شيئًا , وإلا صارت هذه الكتب والأبحاث حجة عليهم ومعينة لنا على التمسك بديننا الذي ما أشرقت الشمس يومًا على دين أرحم منه !
وعن الفتح الإسلامي لمصر أشارت المؤرخة إيريس إلى أن عودة البابا بنيامين إنما جاء على أثر إنتصار المسلمين وفتحهم لمصر , وتخليص الأقباط من بطش البيزنطيين الكاثوليك ( 2/245 ) .
ثم تستطرد المؤرخة إيريس حبيب في ذكر محاسن البابا بنيامين وتلميذه أغاثون في ظل السنوات الأولى للدولة الإسلامية بمصر , فتقول ( 2/246 ) :
هذا , وقد مر بنا على وجه التفصيل , حياة الأقباط وأحوالهم في ظل الدولة الإسلامية , إلا أننا سنشير إلى بعض ما ذكرته المؤرخة إيريس حبيب .
إيريس حبيب تضرب لنا الأمثلة !
تذكر الباحثة د / إيريس حبيب في مؤلفها " قصة الكنيسة القبطية " أن عبد العزيز بن مروان أحد ولاة مصر إبان الدولة الأموية , توجه إلى الإسكندرية للإشراف على جمع الجزية , فلم يستقبله الأنبا يؤنس الثالث بابا الإسكندرية أنذاك , فسرعان ما انتهز الكاثوليك هذا الموقف , فادعوا للوالي أن البابا تعمد عدم الخروج لإستقباله , مما أغضب ذلك الوالي عبد العزيز بن مروان , إذ إعتبرها إهانة له , فأمر بإعتقال البابا حتى تؤدى غرامة مالية قدرها مئة ألف دينار ( !! ) .
لكن سرعان ما جرى حوار بين البابا والوالي , إستشعر الوالي من خلاله المكيدة التي خطط لها الكاثوليك , فأفرج عن البابا وأطلق له حرية التصرف في كنيسته الأرثوذكسية !
وتقول الباحثة إيريس حبيب في تعقيبها على الحادثة 2/260-262 :
وفي ص 264 من نفس المرجع السابق تذكر الباحثة إيريس حبيب مرض البابا يؤنس الثالث , فتقول ما نصه :
وفي ص 304 - 305 من المرجع المشار إليه , تذكر إيريس حبيب , أن أحد متولي الخراج واسمه " عبيد الله " قد إستبد في جمع الخراج من المسلمين والمسيحيين , إلا أنه قد إزداد إستبداده بالمسيحيين عن المسلمين - على حد زعم إيريس - .
ثم تقول الباحثة بالنص :
إنه الإسلام , الذي ربى النفوس على الحق والعدل والإنصاف !
يوحنا الدمشقي ... الطاعن في دين الله !
من منَّا لا يعرف يوحنا الدمشقي ؟!
إنه الرجل الذي كاد للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم حقدًا وبغضًا من عند نفسه , لا لشيء سوى أن الإٍسلام في زمانه كلما إختلطت تعاليمه الفذة بقلوب العباد إلا دخلوا فيه أفواجًا , لا لشيء سوى أن الإسلام قد نشر العلم والحضارة في شتى أنحاء المعمورة , وذلك في زمن كانت المسيحية فيه تموج في بحور ظلمات قساوسة الكنائس والمجامع !
تقول الأسطورة أن يوحنا الدمشقي توجه إلى نقد الدين الإسلامي عندما أمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بقطع يده – أي الدمشقي - , وقد ذكر العديد من أهل البحث من أتباع الديانتين أسطورية هذه القصة , إذ تنقل لنا الباحثة د/إيريس حبيب في مؤلفها محل الفحص والنقل " قصة الكنيسة القبطية " أن الخليفة الأموي ما حكم على الدمشقي إلا بالطرد من بلاطه فقط , وذلك من جراء مكيدة أوقعه فيها إمبراطور القسطنطينية , تقول الباحثة في مؤلفها " قصة الكنيسة القبطية " 2/327 :
وعلى هذا نقول : إن يوحنا الدمشقي ما دفعه إلى الطعن في دين الإسلام إلا الحرية الفكرية التي كفلها الأمويون للجميع أنذاك , أضف إلى ذلك , فشل الكنيسة في قيادة دفة العلم والحضارة – كعادتها – , بل كانت آنذاك تحارب العلم وتقف حائلاً بين العلماء ونظرياتهم , مما تسبب في إنتشار الجهل والظلم بين المسيحيين أينما حلوا ودبوا , لذلك وجد عوام المسيحيين في الحكم الإسلامي سبيل النجاة لممارسة طقوسهم الدينية على مختلف طوائفهم الدينية المسيحية , ووجد المفكرون والمثقفون من رجال الدين المسيحي سبيل الحرية للتعبير عن إعتقاداتهم وأفكارهم !
تقول الباحثة إيريس حبيب 2/ 339 :
لكن ذلك حدا بيوحنا الدمشقي إلى الطعن في الإسلام والمسلمين , ولا نجد لذلك مبررًا - كما ذكرنا - إلا الحقد ونكران الجميل لمن أحسنوا إليه وكفلوه بالرعاية والحماية , وما أشبه الليلة بالبارحة !
دفاع عن هارون الرشيد بأقلام مسيحية !
الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله ورضي عنه , المفترى عليه من قبل أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا , تقول عنه الباحثة إيريس حبيب 2/ 368 :
فأين أنتم يا دعاة العلمانية الحمقاء مما ذكرته الباحثة المسيحية إيريس حبيب ؟!
صلاح الدين ... وإن رغمت أنوف !
السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي , بالرغم من السماحة التي عامل بها النصارى العرب أينما هلت بشائره وحلت جيوشه , إلا أن حفنة من الحاقدين الأقباط لا يزالون يهمزون ويلمزون حول سيرته وكفاحه المجيد , لتشويه صورته وسيرته , وما ذلك إلا لأنه قمع حملات أسلافهم الصليبيين الذين ذاق ويلات حروبهم الأقباط أنفسهم , فلتقرأوا ما تقوله الباحثة إيريس ( 3/ 120 ) :
نقول لهم أيضًا , هذه إيريس حبيب , الباحثة المسيحية التي لا غبار عليها , تذكر لكم من هو صلاح الدين ( 3 / 158- 170 ) :
رحم الله مفخرة الإسلام والمسلمين ... السلطان الناصر صلاح الدين !
أكتفي بهذا القدر من كتاب الباحثة إيريس حبيب : " قصة الكنيسة القبطية " .
الإضطهاد ... مفهومه ! .. أسبابه ! .. وأهدافه !
إن الناظر الخبير إلى دعوى " الإضطهاد " الصادرة عن نصارى المهجر ومن شايعهم من نصارى مصر , يجد فيها مبالغة متعمدة لنيل مكاسب ومصالح مخطط لها من خلال دعوى " الإضطهاد " , فالنصارى يعتبرون أي فعل من شأنه إقامة الدولة وتنظيم الأحوال المدنية والشخصية بين أفراده من باب الإضطهاد !! فلقد نسوا ما هو الإضطهاد الذي ذاقوا مرارته على مر العصور , وذلك بعد أن تنعموا بأكسية الحرية والعدل والسماحة , في ظل الإسلام ودولته !!
يذكر الكاتب " ول ديورانت " في كتابه الموسوعي ( قصة الحضارة ) في كتاب " قيصر والمسيح ص 380 " نموذجاً من الأهوال التي تعرض لها المسيحيون على يد الإمبراطور دقلديانوس في عام 303م: ( ويؤكد لنا يوسبيوس , ولعله يفعل ذلك في ثورة الغضب , أن الناس كانوا يُجلدون حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم , أو أن لحمهم كان يُقشر عن عظامهم بالأصداف وكان الملح أو الخل يُصب في جروحهم , ويُقطع لحمهم قطعة قطعة ويُرمى للحيوانات الواقفة في انتظارها , أو يشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع قطعة قطعة , ودُقت عصا حادة الأطراف في أصابع بعض الضحايا تحت أصابعهم , وسُملت أعين بعضهم , وعُلق بعضهم من يده أو قدمه , وصُب الرصاص المصهور في حلوق البعض الآخر , وقُطعت رؤوس بعضهم أو صُلبوا , أو ضُربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة , ومُزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسادهم إلى غصون أشجار ثُنيت ثنياً مؤقتاً , وقد وصل ذلك لنا كله عن المسيحيين أما الوثنيون فلم ينقلوا لنا شيء من هذا ) .
وتحدثنا لجنة التاريخ القبطي بالكنيسة المصرية الأورثوذكسية عن الإضطهادات التي وقعت بعد دقلديانوس : ( ... وقام القيصر مكسيميانوس بعد ديوكلتيانوس , فأذاق المسيحيين كؤوسًا مرة من الإضطهاد , حيث قتل منهم ألوفًا كثيرة وخرب كنائسهم ) ( خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص 76 ) .
وأقدم من هذا الإضطهاد , إضطهاد نيرون سنة 64م : ( وكان سببه أن نيرون بعد أن أحرق رومه اتهم المسيحيين بهذا الحريق , فكانت السنوات الأربع الأخيرة من حكم هذا الطاغية سنين أخطار ومهالك في كل أنحاء المملكة الرومانية , حيث تفننوا في تعذيب المسيحيين , فوضعوا بعضهم في جلود حيوانات برية , وطرحوهم للكلاب فنهشتهم , وصلبوا بعضهم ثيابًا مطلية بالقار وجعلوهم مشاعل يُستضاء بها ليلاً , وكان نيرون نفسه يسير على ضوء هذه المشاعل البشرية ) ( المصدر السابق ص 95 ) .
ويقول الدكتور/نبيل لوقا بباوي عن الإضطهادات التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ضد نصارى مصر الأورثوذكس قبل الفتح الإسلامي للبلاد : ( في عام 631م حاول هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية أن يوحد العقيدة المسيحية مرة أخرى في جميع الولايات التابعة لإمبراطوريتة حسب المذهب الأريوسي ذي الطبيعتين للسيد المسيح , وأرسل حاكم جديد هو المقوقس الذي قام بإحراقهم أحياء - أي الأرثوذكس - وانتزاع أسنانهم , لدرجة أن شقيق الأنبا بنيامين بطريرك الأقباط الأرثوذكس في الإسكندرية قام الجنود الرومان بحرق أخيه متياس وأشعلوا فيه النار حيًا لرفضه الإعتراف بقرارات الإمبراطور هرقل الجديد , ويجمع جميع المؤرخين أن هذه الحماقات من جانب المقوقس جعلت الأقباط في مصر يكرهون حكم الدولة البيزنطية وكانوا يصلون أن ينجوا من شرور الجنود الرومان , ولشدة الإضطهاد من جنود الرومان هرب البطريرك الأنبا بنيامين وترك مدينة الإسكندرية وهرب للصعيد بعد أن رأى ما حدث لأخيه وللأقباط الأرثوذكس , وفي هذا الجو المأساوي الدموي حيث تذكر كتب التاريخ القبطي أن دماء الأقباط الأرثوذكس كانت تصل إلى ركب الخيول للجنود الرومان , وفي عام 639م أتى عمرو بن العاص بجيشه إلى مصر ومعه أربعة آلاف مقاتل , وفتح مصر في هذا الجو المأساوي الذي يعيش فيه الأقباط الأرثوذكس من ويلات القتل والعذاب على الجنود الرومان ) ( إنتشار الإسلام بحد السيف بين الحقيقة والإفتراء ص 157-158 ) .
وبعد عصر قسطنطين بقليل من الزمن أعد المسيحيون وثيقة مزيفة بإسمه – أي قسطنطين – أجيز فيها العنف مع الكفار والملاحدة , فقضوا خلال القرن التالي , تحت هذا الشعار , على أتباع الديانات الأخرى وكل من إختلف مع الكنيسة الكاثوليكية .
Rationalist encyclopedia, p442
وبعد أن انتهى المسيحيون " الأغلبية " من الكفار والملاحدة " الأقلية " , توجهوا إلى اليهود تحت شعار ثأر دم المسيح , وفي ظل هذه الذريعة قُتل اليهود وسُلبت ممتلكاتهم , وأجبروا على الخروج من بيوتهم , وقد قال البابا الشهير " هائيلد براند " مشجعًا الحكام المسيحيين على قتل الملحدين والكفار واليهود : " الذي يمنع سيفه من قتل هؤلاء فهو ملعون " !
Herbert Muller: use of the past pp.86-87; Cambridge modern history (1907), vol.10, p. 152; Rationalist encyclopedia, p.270
ومن الحيل التي إستغلها المسيحيون لإضطهاد المسلمين واليهود والذين إختلفوا مع الكنيسة الكاثوليكية هو ما عُرف بـ " محاكم التفتيش " . فباسم هذه الحيلة قتل كثير من الأبرياء الذين يصعب حصرهم من الرجال والنساء والأطفال ذبحًا وشنقًا وحرقًا , الأمر الذي يُعد صفحة مظلمة في تاريخ الإنسانية جمعاء !
وقد إضطر الباحثون في ضوء أمثلة الظلم والإضطهاد والتعذيب هذه إلى أن يقولوا :
" تمتاز المسيحية بين الديانات الأخرى , بأنها قتلت منكريها وشددت عليهم من حيث الكم والكيف لدرجة أنه لا يمكن أن تتنافس معها أي ديانة أخرى " .
Rationalist encyclopedia, p441
وهناك ما يعرف بـ " الإضطهاد الفكري " , والذي يتمثل في حرب فكرية ثقافية , تحجر على الفكر والإطلاع والعلم , كالذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية ضد فلاسفتها ومفكريها وعلمائها في القرون الوسطى , إذ يعتبر عصر إزدهار المسيحية وإنتشارها ما يجمع المسيحيون كلهم تقريبًا على تسميته بـ " القرون المظلمة " . وما حادثة إضطهاد برونو وجاليليو منا ببعيد , وهم من أبرز علماء الفلك في القرون الوسطى , فالأول أحرق حيًا , والثاني لكبر سنه عُذب عذابًا شديدًا وأُكره على أن يبريء نفسه من أفكاره الكافرة, التي كان أبرزها أن الشمس تمثل مركزًا للنظام الشمسي بدلاً من الأرض , وهذا ما ثبت علميًا فيما بعد !
ولم يكن برونو وجاليليو ضحايا هذا العصر فحسب , بل إن باباوات الكنيسة وسعوا دائرة السخط على عامة الناس , فأحرقوا كل من أرادوا , زاعمين أنه " عراف " !
Rationalist encyclopedia, pp.622-623
وكذلك ما قامت به الكنيستان : الكاثوليكية والأرثوذكسية من خلال مجامع ومحاكمات كنسية لأكابر رجالها , كلما خرجوا على العالم المسيحي بأفكار وأراء تناقض الموروث العقدي لدى الكنيسة , فظهر مصطلح " الهراطقة " , ذلك المصطلح الذي كان كافيًا عند إطلاقه على أفراد أو جماعات , لحرقهم وحرق مؤلفاتهم وحذر نقلها أو تداولها , ومعاقبة كل من يمتلك هذا المؤلفات أو ينادي بما نادت به من أراء وأفكار بالقتل أو الحرق !
فمتى حدث مثل هذا للمسيحيين أو حتى عشره في ظل حكم الإسلام لهم ؟!
إن الذي نقلتُه – على سبيل المثال - عن لجنة التاريخ القبطي وكذا ول ديورانت ونبيل لوقا , هو بلا شك إبادة جماعية عرقية , يعبر عنها بلفظ يكافئها ويساويها , ألا وهو "الإضطهاد" , وما شهد به التاريخ المسيحي من إرهاب فكري , وقمع ثقافي , وحجر علمي , لا نجد حقيقة ما نصفه به إلا بـ " الإضطهاد الفكري " !
أما الذي نراه من خلال مزاعم النصارى بالإضطهاد الإسلامي لهم في ظل دولة الإسلام , فهو زعم سخيف يُعَبر عنه بطفلة مدللة لدى المتكفلين برعايتها , نسيت ما كانت تلاقيه من عقوق وشدة وإهانات نفسية وجسدية وسوء تربية على يد والدايها الأصليين , فكلما نصحها المتكفلون برعايتها ووجهوها لما فيه مصلتحها , وأرادوا منعها من الإستمرار في تطاولها وتعديها وبطشها عليهم , تزعم إضطهادهم لها !
فنحن إذا ما أخذنا من النصارى البالغين القادرين على حمل السلاح الجزية , جزاء حمايتهم وكفايتهم عدوا ذلك من الإضطهاد !! وهم الذين كانوا يدفعون الضرائب رغمًا عنهم , ودون أي إعفاء لكبير أو صغير من الجنسين , وليس من أجل الحماية والكفاية عنهم !!
وإذا ما قمنا بتغيير اللغة الرسمية للبلاد كما فعل عبد الله بن عبد الملك بن مروان في مصر شرفها الله , عدوا ذلك من باب الإضطهاد !! ولا ندري أي اضطهاد في ذلك , وقد صارت مصر دولة إسلامية يحكمها لسان عربي مبين , ممثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , واللذين ضمنا حرية العقيدة والتدين لأهل الذمة أنفسهم , كما أن هذا الأمر قد حدث مرارًا وتكرارًا كلما قامت حضارة جديدة أرادت الريادة لنفسها وإثبات ذاتها وصنع أمجادها , ولم يزعم أحد من جراء ذلك الفعل مزاعم " الإضطهاد " !
والناظر الخبير يعلم أن دعوى الإضطهاد في هذا الشأن يراد منها طمس مصادر التشريع الإسلامية . ونُذَكِر , أن عبد الله بن عبد الملك لم ينه عن التحدث باللغة العبرية أو القبطية أو اللاتينية أو اليونانية داخل الكنائس أو حين أداء الشعائر الدينية المسيحية أو اليهودية أو حتى فيما بين أهل الذمة , وما سمعنا عن مسيحي أو يهودي قُتل أو أُحرق بسبب تحدثه بغير العربية !
فعلى هذا تجري مزاعم الإضطهاد , إذ يراد منها تشويه صورة الإسلام , وسد منافذ تحكيمه مرة أخرى بصورة كاملة في شتى مناحي الحياة , والحصول على مكاسب لا يضمنها لهم دينهم ذاته بقدر ما يضمنها لهم تسامح دين الإسلام , ذلك التسامح الذي غر فئة من النصارى , تزداد أطماعهم يومًا بعد يوم , حتى يحصل لهم مرادهم النهائي , وهو تنصير المسلمين والقضاء على الإسلام العظيم , الذي لولاه لما صار لنصرانيتهم وجودًا !
إن " الإضطهاد " الذي يردده بعض النصارى في مصر والخارج , هو في حد ذاته إضطهاد للمسلمين , لأنهم يريدون من خلال هذه المزاعم الكاذبة أرهبة المسلمين داخل بلادهم , وزعزعة أمنهم وإستقرارهم , من خلال تشجيع المتعصبين على التدخل لوقف هذا الإضطهاد المزعوم !
والإسلام ما قهر النصارى - أو حتى اليهود - فكريًا أو حرمهم من عقيدتهم في يوم من الأيام , بل ترك الإسلام لهم المجال العقدي والفكري والثقافي , وكرم مثقافيهم وعلماءهم, وقلدهم أبرز المكانات العلمية والدينية , فيشهد التاريخ فرار كل باحث وطالب للعلم والثقافة من أوروبا إلى دولة الإسلام إبان الحكم الكنسي لأوروبا في القرون الوسطى المظلمة , فعج العالم الإسلامي بفلاسفة المسيحية ورجال الدين , كما ذكرنا سلفًا .
ورغم كل ما قيل , فنحن لا ندعي العصمة لأحد إلا لله ولرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , فأما الحكام وأولي الأمر , فهم ليسوا بمعصومين , ولكن من حكم فينا بشرع الله فهو العادل المقيم لحدود الله , ومن خالف الشرع أو أهمل في تطبيقه فهو الظالم لنفسه وأمته وشعبه على مختلف طوائفهم , فأي ظلم وقع على النصارى – على فرض وقوعه – بغير وجه حق على يد حاكم مسلم أو جماعة تزعم الإسلام وتحمل رايته , فالإسلام منهما بريء , ولا يُعد ذلك اضطهادًا بالمعنى المشهور عندهم – أي عند النصارى - , لكنها مشكلة عارضة خالف الحاكم أو المسلم تعاليم دينه ودستوره في معاملة غير المسلمين بل ومعاملة أهل ديانته من المسلمين , وقد نقلنا موقف الإسلام العظيم من أهل ذمته , وكيف أنه كفل لهم ما لم تكفله لهم أديانهم !
فهناك أمور ينبغي التنبه لها , فنحن لا نمنع أن يعمد أحد حكام المسلمين إلى "إضطهاد" فئة معينة في زمان من الأزمان , وهذا مخالف طبعـًا للإسلام وشريعته , ولا يتحمل الإسلام وزره ، لكنه قد يقع مع الأسف ، إذ لا نشهد لحكامنا - في أي عصر - بالعصمة مطلقــًا , فهذا من باب وضع النقط فوق الحروف !
وكما ذكرنا أيضًا , أنه لم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويلاً , فقد كان الرأي العام – وأهل العلم معه – دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين , وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه , وقد ذكرنا أمثلة ذلك .
ونحن لا نقول أيضًا بعصمة الدولة الإسلامية كدولة حاكمة , بل أصابها القصور والضعف ونال رعاياها على مختلف انتماءاتهم الدينية بعض الجور والظلم في بعض الأزمنة والأحقاب , خاصة الأغلبية المسلمة , لكننا نقول بعصمة مصادر التشريع في الدولة الإسلامية , القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع والقياس ... إلخ , فأيَّما زمان إحتكم المسلمون إلى هذه المصادر , حصل الرخاء والعدل لهم ولأهل ذمتهم ولكل حي عاش في كنفهم , والتاريخ يشهد على ذلك في أوضح شهادة , والتراخي عن تحكيم هذه المصادر في حكم الدولة وإن حملت شعار الإسلام , هو سبب القصور والضعف الذي كان يصيبها في بعض أزمانها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة , فبمقدار التمسك بهذه المصادر والإحتكام إليها يحصل الخير والعدل والرقي والتقدم , وعلى نقيض ذلك ترى الخلل والفشل مستوليًا وفاشيًا في أرجاء الدولة , وهذه ليست شعارات نزعمها كغيرنا , بل كل كلمة نزعمها لها واقع عملي تاريخي يشهد لها ويؤيدها , ولا تزال سنة الله في خلقه قائمة !
ولا ننسى أيضًا أن الأمر منوط بإلتزام النصارى بالعهد والميثاق المأخوذ عليهم , وعدم الخروج على حكم الإسلام , الذي ضمن لهم – بلا أدنى شك – حقهم في العيش والكسب وحرية العبادة , وعدم التطاول على المسلمين وأذيتهم والتعدي عليهم أو المكر بهم أوتسليم رقابهم لعدوهم !
فليس لهم المساس بشيء من قواعد الإسلام ومقدساته من قرآن أو سنة نبوية وعقيدة وعبادة وأخلاق ، ومسلّمات تاريخية ، وليس لهم شيء من السبّ والشتم والتهكم أو السخرية ، أو إثارة الفتنة الدينية ، أو الطعن بقيم الإسلام وتاريخه وحضارته ، أو الإعتداء على الأعراض والكرامات !
ولعل هذا , أحد أهم الأسباب في وقوع الإضطرابات بين المسلمين والمسيحيين , خاصة في عصور دولة الإسلام , وقد شهد بهذا العديد من المؤرخين المسيحيين , ونقلت هذه الشهادة المجملة - بطريق غير مباشر - , أحد أبرز الكُتَاب الحاقدين على الإسلام والمسلمين , وهى السيدة العنصرية " أ.ل.بتشر الإنكليزية " في مؤلفها " تاريخ الأمة القبطية وكنيستها " , إذ تقول :
( إن الوقائع التاريخية التي جرت في غصون الجيل الثامن للهجرة الموافق الجيل الرابع عشر للمسيحيين هى أعظم شاهد صادق يدلنا على عظم الإضطهاد الشديد الذي عاناه الأقباط على يد الحكام المسلمين الذين تعاقبوا حكم مصر في ذلك الجيل ...
ولو أن المؤرخين المسلمين قد أثبتوا وأكدوا أن تلك الإضطهادات قد جلبها الأقباط على أنفسهم - أي أنهم كانوا السبب في وقوعها عليهم - , وقد جارى المؤرخون المسيحيون إخوانهم في إثبات ذلك بلا بحث في الحوادث والوقائع للحصول على الحقائق التاريخية , كما هى عادة أغلب المؤرخين الإفرنج فقد كانوا يستعملون كلمات نييل المؤرخ الفرنساوي : " حدث بسبب خطأهم " – أي الأقباط – إلا أني قد فحصت تلك الوقائع التاريخية فحصًا دقيقًا في تاريخ المقريزي الذي يُعتبر أصدق مؤرخ مسلم وبعض كتب تاريخية إسلامية أخرى توجه التهم إلى الأقباط فاتضح لي بعد التمعن أن أولئك المؤرخين لم يكونوا على ثقة تامة من إثباتها ... ) ( تاريخ الأمة القبطية وكنيستها 4/1 ) .
فيكفينا ما ذكرته هذه المرأة العنصرية من إجماع المؤرخين المسيحيين والمسلمين على أسباب النزاعات التي قامت أنذاك , وليت شعري إذا كان الأمر على النحو الذي ذكرته هذه المرأة , فما الذي دفع المؤرخين المسيحيين لمجارة المؤرخين المسلمين حسب زعمها ؟! ألا يستحي هؤلاء حين يطعنون في ذمم أسلافهم ؟!
ولك أن ترجع عزيزي القاريء إلى تاريخ المقريزي , لتعلم كذب هذه المرأة وتزويرها , وأن دعوى فحصها الدقيق هو من باب ذر التراب في العيون لخداع القاريء الغربي , فالمقريزي ما ذكر خبرًا من أخبار القوم أصابتهم فيه مصيبة إلا وذكر أن ذلك بما كسبته أيديهم – كما جاء بيان ذلك سلفًا – , حتى قال رحمه الله : ( ولا يخفى أمرهم - أي النصارى - على من نور الله قلبه , فإنه يظهر من آثارهم القبيحة إذا تمكنوا من الإسلام وأهله ما يعرف به الفطن سوء أصلهم , وقديم معادة أسلافهم للدين وحملته !) ( الخطط 3/285 , والقول الإبريزي ص 65 ) .
وهذه المرآة العنصرية جاء كل كلامها في مؤلفها سالف الذكر بلا دليل واحد يثبت صدق مزاعمها , بل أخذت تبث سمومها وأحقادها طاعنة في شهادات من سبقها بمئات السنين من المؤرخين المسيحيين دون دليل أو سند أو مرجعية توثيقية لما تزعمه , وكل ذلك تم في مؤلفها تحت عنوان خادع , إلا هو : " البحث والفحص الدقيق " !! فتزعم الزعم الموافق لما تريد الترويج له من حقد بغض , ثم تدعي أن هذا ما وقفت عليه بعد البحث الدقيق !! ولم تخبرنا هذه العنصرية : أين هى أدلة بحثها ؟! وما هى مصادر فحصها ؟! وما هو سند دليلها – إن وُجد الدليل أصلاً – ؟!
بل إنك لتعجب من عدم وجود مرجع واحد تتكأ عليه في مؤلفها في معظم الأخبار المسطرة فيه , فهى تورد الأخبار دون الإشارة إلى مصدر أو مرجع معين للإحالة إليه , وهى تريدنا أن نأخذ كلامها المرسل هذا على وجه التسليم والقبول المقطوع بصحته نقلاً وعقلاً !
أما ما تنسبه هذه المرأة لمرجع أو مصدر معين - وهو قليل جدًا - , تجد خلافه قطعًا عند الرجوع إلى هذا المصدر , وهذا حال جميع المؤلفات العنصرية الحاقدة , إذ تجد الكذب والتزوير فيها وقد عجزت الشياطين عن الإتيان بمثله !
والأعجب من هذا , أن العديد من قساوسة النصارى اليوم يميلون إلى هذه المؤلفات حين الإستدلال , ومعلوم أن هذه المؤلفات عجت صدور أصحابها بالحقد والتعصب الصليببي على الإسلام وشريعته , وعلى المسلمين ومقدراتهم , تاركين – عن عمد – أهم المراجع التاريخية المسيحية في هذا الباب , والتي يُعد بعضها أقدم من مراجع الحاقدين بمئات السنين, ومن الناحية التوثيقية لا غبار عليها – عندهم لا عندنا – , بل حسبك أن كاتبيها كانوا للأحداث أقرب , فضلاً عن أرثوذكسية إنتماءاتهم وعربية لسانهم !
يقول الأستاذ / أحمد عبد الله في إحدى دراساته حول هذا الأمر : ( ... عندما رجعت إلى إثنين وثمانين حادثًا , هى كل ما حدث من مواجهات بين المسلمين والنصارى في مصر على مدى التاريخ , وجدت أن وراء هذه الفتنة دائمًا , رجلاً نصرانيًا جاء لكرسي الكنيسة , أو رجلاً مسلمًا جاء لكرسي الحكم , يريد أن يعبث بحقده وغله , محتكمًا إلى هواه ومزاجه الخاص , المخالف للكتب الإلهية , محاولاً قطع أوصال التفاعل التاريخي الإنساني الفكري الثقافي الصامد والصامت والممتد , حتى أصبح وشيجة من وشائج جسد الأمة , تصرخ له كلها إن جرح , وتتألم له إن أوذي , تلك الصرخات وآهات الألم التي تصيب الجسد المارد بذلك الداء الذي أسموه بـ " الفتنة الطائفية " ) (أبو إسلام أحمد عبد الله - الحضارة الغائبة , تاريخ النصرانية في مصر ص 7 ) .
أعود فأقول : إن القوم لا يفرقون بين كل هذه الأمور عند إطلاق دعوى " الإضطهاد " , فهم يريدون التمكين ولو على حساب رقاب المسلمين , فإذا ما أوقفنا تعديهم وتطاولهم , خرجوا على العالم بمزاعم " الإضطهاد " !
نقلا عن "أبي حاتم بن عاشور" - مجلس الألوكة .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في أحداث سنة سبع وستين وسبعمائة:
"وردت الأخبار بما وقع من الأمر الفظيع بمدينة الإسكندرية من الفرنج لعنهم الله، وذلك أنهم وصلوا إليها في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر الله المحرم، فلم يجدوا بها نائبا ولا جيشا، ولا حافظا للبحر ولا ناصرا، فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار بعد ما حرقوا أبوابا كثيرة منها، وعاثوا في أهلها فسادا، يقتلون الرجال ويأخذون الأموال ويأسرون النساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير المتعال.
وأقاموا بها يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء، فلما كان صبيحة يوم الأربعاء قدم الشاليش المصري (قوة من صفوة المماليك)، فأقلعت الفرنج لعنهم الله عنها، وقد أسروا خلقا كثيرا يقاومون الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهبا وحريرا وبهارا وغير ذلك ما لا يحد ولا يوصف، وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظهر يومئذ ، وقد تفارط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشوائن بالبحر، فسمع للأسارى من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله والاستغاثة به وبالمسلمين، ما قطع الاكباد، وذرفت له العيون وأصم الاسماع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شق عليهم ذلك جدا، وذكر ذلك الخطيب يوم الجمعة على المنبر فتباكى الناس كثيرا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية إلى نائب السلطنة بمسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية، ولعمارة مراكب تغزو الفرنج، فأهانوا النصارى وطُلبوا من بيوتهم بعنف وخافوا أن يقتلوا، ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعا، وقد طلبت يوم السبت السادس عشر من صفر إلى الميدان الأخضر للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتماعنا بعد العصر يومئذ بعد الفراغ من لعب الكرة، فرأيت منه أنسا كثيرا، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى، فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك، فقلت له: هذا مما لا يسوغ شرعا، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية ملتزمين بالذلة والصغار، وأحكام الملة قائمة، لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد - الفرد - فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير. فقال: كيف أصنع وقد ورد المرسوم بذلك ولا يمكنني أن أخالفه؟ وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب، وأنه يجوز ذلك وإن لم يفعل ما يتوعدهم به، كما قال سليمان بن داود عليهما السلام: " ائتوني بالسكين أشقه نصفين " كما هو الحديث مبسوط في الصحيحين، فجعل يعجبه هذا جدا..." انتهى من البداية والنهاية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق